التعليق على ما يحدث في المنتديات من الطعن في الأنساب وإثباتها بغير بينة
[السُّؤَالُ]
ـ[هذه الأيام يكثر الكلام في المنتديات على أن العائلة ليست من القبيلة الفلانية، وتردُّ العائلة بأنها من القبيلة، وتنفي، فهل ذلك يعتبر من الطعن في الأنساب، وهل التقصي عن النسب بغرض تقطيع الرحم التي بين العائلات محرم؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
التفاضل عند الله إنما يكون بالإيمان والتقوى، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات/ ١٣.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَاّ بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رواه أحمد (٣٨/٤٧٤) ، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (٢٧٠٠) .
ثانياً:
مِن أمور الجاهلية التي حذَّر منها النبي صلى الله عليه وسلم الفخر بالأنساب، والطعن في الأنساب.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ الَّذينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّم، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَاب) رواه الترمذي (٣٨٩٠) ، وحسَّنه الألباني في "صحيح الترمذي".
"والجُعَل": حشرة صغيرة سَوْدَاءُ يُقَالُ لَهَا الْخُنْفُسَاءُ.
ومعنى (يُدَهْدِهُ) : أَي: يُدَحرِجُه بِأَنْفِهِ.
وَ (الخِرَاءُ) : وَهو العذْرَةُ.
و (عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) : أَي: نَخْوَتَهَا، وَكِبْرَهَا.
وعن أبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيَّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ) رواه مسلم (١٥٥٠) .
وعَن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ) رواه مسلم (٦٧) .
والطعن في الأنساب يشمل معنيين:
١- نفي نسب الرجل عن أبيه أو قبيلته.
٢- شتم الأباء أو القبيلة، وذكر معايبهم.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
"الطعن في النسب: معناه التعيير بالنسب، أو أن ينفي نسبه، فمثلا يقول في التعيير: أنت من القبيلة الفلانية التي لا تدفع العدو، ولا تحمي الفقير، ويذكر فيها معايب، أو: مثلا يقول: أنت تدعي أنك من آل فلان، ولست منهم" انتهى.
"شرح رياض الصالحين" (٦/٢٦٤) .
ثالثاً:
لا يحل للإنسان أن يدَّعي أباً غير أبيه، ولا قبيلة غير قبيلته، وفي الوقت نفسه لا يحل له الانتفاء من أبيه، أو من نسبه.
فعَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهْوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ) رواه البخاري (٦٣٨٥) ومسلم (٦٣) .
قال ابن دقيق العيد رحمه الله:
يدل على تحريم الانتفاء من النسب المعروف والاعتزاء إلى نسب غيره، ولا شك أن ذلك كبيرة لما يتعلق به من المفاسد العظيمة.
"إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (١/٤١٩) .
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كَفَرَ وَمَنْ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ [نسب] فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) رواه البخاري (٣٣١٧) ومسلم (٦١) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
وفي الحديث: تحريم الانتفاء من النسب المعروف، والإدعاء إلى غيره، وقُيِّد في الحديث بالعلم، ولا بد منه في الحالتين، إثباتاً، ونفياً؛ لأن الإثم إنما يترتب على العالم بالشيء، المتعمد له.
"فتح الباري" (٦/٥٤١) .
رابعاً:
يجوز تعلم النسب من أجل زيادة الروابط والصلة بين الأسر، والقبيلة، فهذا مقصود شرعي حثت عليه الشريعة المطهرة، كما أن عكسه محرَّم، وهو نفي النسب عن الآخرين من أجل تقطيع الرحِم، فهذه نية آثمة يضاف إثمها إلى إثم الطعن في النسب.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ) رواه الترمذي (١٩٧٩) ، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".
(مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ) يَعْني: زِّيَادَةَ فِي الْعُمُرِ.
قال ابن عبد البر رحمه الله:
ولعمْري ما أنصف القائل: "إن عِلْم النسب عِلْم لا يَنفع، وجَهالة لا تضر"؛ لأنه بَيِّن نفعُه لما قدّمنا ذكره؛ ولما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كُفْرٌ بالله تبرُّؤ من نسب وإن دق، وكفر بالله ادعاء إلى نَسب لا يُعرف) - رواه أحمد وابن ماجه، وحسَّنه الأرناؤط والألباني -.
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مثلُه.
"الإنباه عن قبائل الرواة" (ص ١) .
وعن جبير بن مطعم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول على المنبر: (تعلموا أنسابكم، ثم صِلوا أرحامكم، والله إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه الشيء، ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرحم: لأوزعه ذلك عن انتهاكه) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (٧٢) وحسَّنه الألباني في "صحيح الأدب المفرد".
خامساً:
الناس مؤتمنون على أنسابهم , فلا يحل لأحدٍ أن ينفي نسب أحدٍ دون بينة شرعية، وقد كثر في المنتديات مثل هذا النفي لأنساب الناس؛ عصبية، وجهلاً، والميزان عند بعض الناس الجنسية! فيظنون أن من كان من جنسية غير بلدهم أنه مدعٍ، وكاذب، إذا انتسب لقبيلة عريقة، أو لأهل البيت، ويغفلون أن تقسيم الأمة إلى دويلات لم يكن إلا حديثاً على أيدي المستعمرين، وأن القبائل العريقة قد هاجر بعض منهم إلى دول الإسلام لطلب الرزق، أو بسبب مصاهرة، أو جلاء بسبب دم، وخوفاً من الثأر، وكل ذلك محتمل، والأصل فيمن ادعى نسباً أنه مؤتمن على ذلك، ما لم تكن يثبت أنه كاذب.
وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
أُثر عن الإمام مالك رحمه الله قول: "الناسُ مُؤْتَمَنُونَ على أنسابهم"، فهل هذا يعني عدم تكذيب من نَسَبَ نفسه إلى قبيلة معينة؛ لأنه هو المَعْنِيُّ بذلك وحده؟ .
فأجاب:
إذا اشتهر أن هذا الرجل ينتسب إلى القبيلة الفلانية: فلا حاجة إلى إقامة بيِّنة خاصة؛ لأن الاشتهار في هذا يكفي، فهو من الأمور التي يُشهَد عليها بالاستفاضة.
نقلها الشيخ خالد الجريسي في كتابه "العصبية القبلية من المنظور الإسلامي" (١٣٢) .
وسئل الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله السؤال السابق – فأجاب:
معنى كلامه رحمه الله – يعني: الإمام مالكاً - أن الإنسان إذا انتسب إلى قبيلة، وانتمى إليها: فإنه يقبل ذلك منه، إذا كان محل ثقة، وصدق، وأمانة، ولا يشترط موافقة جميع تلك القبيلة؛ فقد يكون ممن نزح عنها، وقد بقي متمسكًا بنسَبه، حتى يعرف من هو أقرب إليه في الميراث، والولاء، ونحو ذلك، فإذا تسمّى إنسانٌ بأنه من قبيلة بني فلان: فإنه مأمونٌ على نفسه، ما لم يكن هناك دليل على خطئه، ونحوه.
المصدر السابق (١٣٦) نقلاً عن "الفتاوى الشرعية في المسائل العصرية" (١٤٦٠، ١٤٦١) .
وعلى هذا فلا يجوز أحد أن يطعن في نسب أحد، إلا إذا أقام البينة على ما يقول.
ولا يجوز أن يكون هدفه من ذلك: تقطيع الأرحام والصلات بين الناس، أو التشفي أو التعالي على الناس.
مع ضرورة حرص الجميع على الإيمان وتقوى الله تعالى، فبهذا يكون تفاضل الناس عند الله تعالى، فرُبَّ رجلٍ من أهل البيت نسباً، ولكنه فاجر فاسق، وربَّ رجلٍ أعجمي ليس من العرب وهو عند الله تقي.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتقونه حق تقاته.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب