للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل يجوز إطلاق لفظ " الجاهلية " على المجتمعات بعد البعثة؟

[السُّؤَالُ]

ـ[هل يجوز إطلاق لفظ الجاهلية على مجتمعات بعد البعثة سواء منها الكافرة أو المسلمة؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

يُطلق لفظ " الجاهلية " ويُراد به فترة ما قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي نسبة لأمرين اثنين يجتمعان في هذه الحقبة، وهما: الجهل، والجهالة – أي: السفاهة -.

ولفظ الجاهلية لفظ مذموم، ويكفي الجهل والجهالة سوءً أن يتبرأ منهما الإنسان ولو كان من أهلهما، ويكفي العلم والرشد فخراً أن ينتسب إليهما أهلهما، ولو كان من غير أهلهما.

وفي " المعجم الوسيط " (١ / ٣٠٠) :

" الجاهلية ": ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الجهالة، والضلالة.

انتهى

وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:

والجاهلية: ما كان قبل الإسلام.

" فتح الباري " (١٠ / ٤٦٨) .

وقال المنَّاوي – رحمه الله -:

والجاهلية: ما قبل البعثة، سُمُّوا به لفرط جهلهم.

" فيض القدير " (١ / ٤٦٢) .

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:

المراد بالجاهلية ما قبل البعثة؛ لأن الناس كانوا فيها على جهل عظيم، فجهلهم شامل للجهل في حقوق الله، وحقوق عباده.

" القول المفيد على كتاب التوحيد " (٢ / ١٤٦) و " مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (١٠ / ص ٦٠١) .

وقال:

والنياحة من أمر الجاهلية، ولابد أن تكون في هذه الأمة، وإنما كانت من أمر الجاهلية:

إما من الجهل الذي هو ضد العلم.

أو من الجهالة التي هي السفه، وهي ضد الحكمة.

" القول المفيد على كتاب التوحيد " (٢ / ١٤٩) و " مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (١٠ / ص ٦٠٣) .

ثانياً:

وقد أرسل الله تعالى نبيَّه محمَّداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فأنار الله تعالى به الكون، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، فبدَّد الله به ظلمات الجهل والكفر، وانتهى ببعثته صلى الله عليه وسلم عهد الجاهلية، ولكن هل رُفعت الجاهلية عن الأمكنة كلها، وفي جميع الأزمنة؟! بالطبع لا، ولذا فإنه لا يجوز وصف جميع المجتمعات بالجاهلية بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، ولا نزعها عن جميع المجتمعات ـ أيضا ـ، فما تزال بعض المجتمعات تعيش في مستنقعات الجاهلية، فلا يرفع عنها هذا الوصف، وأما من استنار بنور الإسلام من المجتمعات فلا يجوز وصفها بهذا اللفظ، ولو حصل تقصير في بعض جوانب الإسلام منها فهذا لا يبيح وصفها بالجاهلية، وعلى هذا التفصيل اتفقت كلمة العلماء المحققين.

١. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:

فالناس قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا في حال جاهلية منسوبة إلى الجهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل، وإنما يفعله جاهل.

وكذلك كل ما يخالف ما جاءت به المرسلون من يهودية، ونصرانية: فهي جاهلية، وتلك كانت الجاهلية العامة، فأما بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم قد تكون في مصر دون مصر - كما هي في دار الكفار -، وقد تكون في شخص دون شخص، كالرجل قبل أن يسلم فإنه في جاهلية وإن كان في دار الإسلام.

فأما في زمان مطلق: فلا جاهلية بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة.

والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين، وفي كثير من الأشخاص المسلمين كما قال صلى الله عليه وسلم: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية) وقال لأبي ذر: (إنك امرؤ فيك جاهلية) ، ونحو ذلك.

فقوله في هذا الحديث: (ومبتغ في الإسلام سنَّة جاهلية) : يندرج فيه كل جاهلية مطلقة، أو مقيدة، يهودية، أو نصرانية، أو مجوسية، أو صابئة، أو وثنية، أو مركبة من ذلك، أو بعضه، أو منتزعة من بعض هذه الملل الجاهلية فإنها جميعها مبتدعها ومنسوخها صارت جاهلية بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان لفظ الجاهلية لا يقال غالباً إلا على حال العرب التي كانوا عليها فإن المعنى واحد.

اقتضاء الصراط المستقيم " (ص ٧٨، ٧٩) .

٢. وفي بيان خطأ مصطلح " جاهلية القرن العشرين " قال الشيخ بكر أبو زيد – حفظه الله -: بيَّن العلامة الألباني ما في هذا التعبير منْ تسمُّحٍ، وغضٍّ من ظهور الإسلام على الدِّين كله، فجاء في كتاب: " حياة الألباني " ما نصه:

مصطلح " جاهلية القرن العشرين " في نظر الألباني:

السؤال: تناول الداعية " سيد قطب " - رحمه الله - مصطلحاً متداولاً بكثرة في إحدى المدارس الإسلامية التي يمثلها، ألا وهو مصطلح " جاهلية القرن العشرين " فما مدى الدقة والصواب في هذه العبارة؟ وما مدى التقائها مع الجاهلية القديمة وفقاً لتصوركم؟ .

فأجاب العلامة الألباني:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد: الذي أراه أن هذه الكلمة " جاهلية القرن العشرين " لا تخلو من مبالغة في وصف القرن الحالي - القرن العشرين - فوجود الدِّين الإسلامي في هذا القرن وإن كان قد دخل فيه ما ليس منه: يمنعنا من القول بأن هذا القرن يمثل جاهليةً كالجاهلية الأُولى، فنحن نعلم أن الجاهلية الأولى إن كان المعني بها العرب فقط: فهم كانوا وثنيين، وكانوا في ضلال مبين، وإن كان المعني بها ما كان حول العرب من أديان كاليهودية والنصرانية: فهي أديان محرفة، فلم يبق في ذلك الزمان دين خالص منزه عن التغيير والتبديل، فلا شك في أن وصف الجاهلية على ذلك العهد وصف صحيح، وليس الأمر كذلك في قرننا هذا، ما دام أن الله تبارك وتعالى قد منَّ على العرب أولاً، ثم على سائر الناس ثانياً، بأن أرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأنزل عليه دين الإسلام، وهو خاتم الأديان، وتعهد الله عز وجل بحفظ شريعته هذه بقوله عز وجل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ونبيه صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الأُمة الإسلامية وإن كان سيصيبها شيء من الانحراف الذي أصاب الأُمم من قبلهم في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سَنَن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: من هم يا رسول الله؟ اليهود والنصارى؟ فقال عليه الصلاة والسلام فمنِ الناس؟!) أقول: وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهذا الخبر المفيد أن المسلمين سينحرفون إلى حد كبير ويقلدون اليهود والنصارى في ذلك الانحراف، لكن عليه الصلاة والسلام في الوقت نفسه قد بشَّر أتباعه بأنهم سيبقون على خطه الذي رسمه لهم، فقال عليه الصلاة والسلام في حديث التفرقة: (وستفترق أُمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة) ، قال عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة) ، قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: (هي الجماعة) وفي رواية قال: (هي التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي) .

وأكد ذلك عليه الصلاة والسلام في قوله في الحديث المتفق عليه بين الشيخين: (لا تزال طائفة من أُمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) .

فإذن لا تزال في هذه الأُمة جماعة مباركة طيبة قائمة على هدي الكتاب والسنة، فهي أبعد ما تكون عن الجاهلية القديمة أو الحديثة؛ ولذلك فإن الذي أراه: أن إطلاق " الجاهلية " على القرن العشرين فيه تسامح، قد يُوهم الناس بأن الإسلام كله قد انحرف عن التوحيد وعن الإخلاص في عبادة الله عز وجل انحرافاً كليّاً، فصار هذا القرن - القرن العشرون - كقرن الجاهلية الذي بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إخراجه من الظلمات إلى النور، حينئذ: هذا الاستعمال، أو هذا الإطلاق يحسن تقييده في الكفَّار أولاً، الذين كما قال تعالى في شأنهم: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) .

وصْف القرن العشرين بـ " الجاهلية " إنما ينطبق على غير المسلمين الذين لم يتبعوا الكتاب والسنَّة، ففي هذا الإطلاق إيهام بأنه لم يبق في المسلمين خير، وهذا خلاف ما سبق بيانه من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام المبشرة ببقاء طائفة من الأُمة على الحق، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبي للغرباء ... ) قالوا: من هم يا رسول الله؟ جاء الحديث على روايات عدة في بعضها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم - واصفاً الغرباء -: (هم الذين يُصلحون ما أفسد الناس من سنَّتي من بعدي) ، وفي رواية أُخرى قال عليه الصلاة والسلام: (هم أُناس قليلون صالحون بين أُناس كثيرين من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) فلذلك لا يجوز هذا الإطلاق في العصر الحاضر على القرن كله؛ لأنَّ فيه - والحمد لله - بقية طيبة لا تزال على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى سنته، وستظل كذلك حتى تقوم الساعة، ثم إن في كلام سيد قطب - رحمه الله - وفي بعض تصانيفه ما يشعر الباحث أنه كان قد أصابه شيء من التحمس الزائد للإسلام في سبيل توضيحه للناس، ولعل عذره في ذلك أنه كان يكتب بلغة أدبية؛ ففي بعض المسائل الفقهية كحديثه عن حق العمال في كتابه: " العدالة الاجتماعية " أخذ يكتب بالتوحيد، وبعبارات كلها قوية تحيي في نفوس المؤمنين الثقة بدينهم وإيمانهم، فهو من هذه الخلفية في الواقع قد جدّد دعوة الإسلام في قلوب الشباب، وإن كنَّا نلمس أحياناً أن له بعض الكلمات تدل على أنه لم يساعده وقته على أن يحرر فكره من بعض المسائل التي كان يكتب حولها أو يتحدث فيها، فخلاصة القول أن إطلاق هذه الكلمة في العصر الحاضر لا يخلو من شيء من المبالغة التي تدعو إلى هضم حق الطائفة المنصورة، وهذا ما عنَّ في البال فذكرته.انتهى.

" معجم المناهي اللفظية " (ص ٢١٢ – ٢١٥) .

٣. وسئل الشيخ صالح بن فوزان الفوزان – حفظه الله -:

هل يجوز إطلاق لفظ " الجاهلية " على المجتمعات الإسلامية المعاصرة؟ .

فأجاب:

الجاهلية العامة قد زالت ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلا يجوز إطلاقها على المجتمعات الإسلامية بصفة العموم، وأما إطلاق شيء من أمورها على بعض الأفراد، أو بعض الفِرق، أو بعض المجتمعات: فهذا ممكن، وجائز، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: (إنك امرؤٌ فيك جاهلية) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة) .

" الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة " (٨٦، رقم السؤال: ٣١) .

ثالثاً:

لا يجوز للمسلم أن ينظر للمجتمعات الإسلامية بعين الكبر في نفسه، والاحتقار لهم، ومن ذلك: تعميم الحكم بالجهل والانحراف والهلاك.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ) رواه مسلم (٢٦٢٣) .

قال الأمام ابن عبد البر – رحمه الله -:

معناه عند أهل العلم: أن يقولها الرجل احتقاراً للناس، وإزراء عليهم، وإعجاباً بنفسه، وأما إذا قال ذلك تأسفاً، وتحزناً، وخوفاً عليهم لقبح ما يرى من أعمالهم: فليس ممن عني بهذا الحديث، والفرق بين الأمرين أن يكون في الوجه الأول راضياً عن نفسه، معجباً بها، حاسداً لمن فوقه، محتقراً لمن دونه، ويكون في الوجه الثاني ماقتاً لنفسه، موبخاً لها، غير راضٍ عنها.

" التمهيد " (٢١ / ٢٤٢) .

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>