للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حكم الرجوع إلى سورة الفاتحة وأوائل البقرة بعد ختم القرآن

[السُّؤَالُ]

ـ[هناك بعض النساء يجتمعن لتدارس تفسير القرآن، وعندما ينتهين من قراءة المصحف فإنهن يبدأن بالفاتحة، وبداية سورة البقرة، من أجل تبيين أن القراءة متواصلة، وأن القرآن لا ينتهي، فما رأيكم؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

اختلف العلماء في حكم ما يعتاده كثير من القراء عند ختم المصحف من الشروع في ختمة جديدة، وذلك بالرجوع إلى سورة الفاتحة وقراءتها مع الآيات الخمس الأول من سورة البقرة فقط، فكان خلافهم على قولين اثنين:

القول الأول: مشروعية ذلك العمل، واستحبابه. وهو ما ذهب إليه القراء ونص عليه بعض العلماء،

واستُدِل لهذا القول بأدلة، منها:

الدليل الأول: حديث عن عبد الله بن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم:

أنه كان إذا قرأ: (قل أعوذ برب الناس) افتتح من الحمد، ثم قرأ من البقرة إلى: (وأولئك هم المفلحون) ، ثم دعاء بدعاء الختمة، ثم قام.

رواه الدارمي – كما عزاه إليه السيوطي في " الإتقان " (١/٢٩٥) وقال بسند حسن -، والحافظ أبو عمرو الداني، والحافظ أبو العلاء الهمذاني – كما نقل عنهما ابن الجزري في " النشر " (٦٨٨-٦٩٤) ، والحسن بن علي الجوهري في " فوائد منتقاة " (٢/٢٩) ، جميعهم من طريق:

العباس بن أحمد البرتي، ثنا عبد الوهاب بن فليح المكي، ثنا عبد الملك بن عبد الله بن شعوة، عن خاله وهب بن زمعة بن صالح، عن زمعة بن صالح، عن عبد الله بن كثير، عن درباس مولى ابن عباس وعن مجاهد، عن عبد الله بن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم به.

قال الشيخ الألباني رحمه الله:

" هذا إسناد ضعيف؛ وله علتان:

الأولى: أن مداره على زمعة بن صالح، قال الذهبي في " الكاشف ": " ضعفه أحمد، قرنه مسلم بآخر ". وقال الحافظ في "التقريب": " ضعيف، وحديثه عند مسلم مقرون ".

والأخرى: الاضطراب في إسناده عليه على وجهين: الأول: هذا: عن درباس وعن مجاهد؛ قرنه معه.

الثاني: عن درباس وحده؛ لم يذكر مجاهداً معه. وقد ساق ابن الجزري في "النشر" (٢/ ٤٢٠ - ٤٢٥) الأسانيد بذلك.

وفي رواية له عن وهب بن زمعة بن صالح عن عبد الله بن كثير عن درباس عن عبد الله بن عباس ... به مرفوعاً؛ لم يذكر في إسناده زمعة.

وقال عَقِبَه: "حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده حسن؛ إلا أن الحافظ أبا الشيخ الأصبهاني وأبا بكر الزينبي روياه عن وهب عن أبيه زمعة ... ، وهو الصواب ".

فأقول: هذا التصويب صواب؛ لأنه عليه أكثر الروايات، وعليه فلا وجه لتحسين إسناده؛ لأن مداره على - زمعة بن صالح الضعيف - كما تقدم -.

وكيف يكون حسناً وفيه درباس مولى ابن عباس، وَهُوَ مَجْهُولٌ - كما قال أبو حاتم، وتبعه الذهبي والعسقلاني -؟! نعم قد قُرِنَ به مجاهد في بعض الروايات - كما في رواية الجوهري وغيره -، فإن كان محفوظاً؛ فالعلة واحدة وهي زمعة. والله أعلم " انتهى.

" السلسلة الضعيفة " (رقم/٦١٣٤)

الدليل الثاني: حديث مرفوع جاء فيه:

(قال رجل: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ. قَالَ: وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: الَّذِي يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ)

وقد وي هذا الحديث على وجهين:

١- مسندا متصلا: من طريق صالح المري، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن ابن عباس به. رواه عن صالح المري على هذا الوجه الهيثم بن الربيع – كما عند الترمذي (رقم/٢٩٤٨) -، وعمرو بن عاصم – كما عند البزار (٢/٢١٣) -، وعاصم الكلابي، وعمرو بن مرزوق، وزيد بن الحباب في " المستدرك " (١/٧٥٧) ، وإبراهيم بن أبي سويد الذارع – كما في " معجم الطبراني " (١٢/١٦٨) -

٢- مرسلا من طريق صالح المري، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، من غير ذكر ابن عباس. رواه عن صالح المري على هذا الوجه مسلم بن إبراهيم، كما عند الترمذي (رقم/٢٩٤٨) . وإسحاق بن عيسى – كما عند الدارمي (٢/٥٦٠) -، وعبد الله بن معاوية الجمحي – كما في " النشر " لابن الجزري (ص/٦٩٩) وقد رجح الترمذي رواية من أرسله فقال: " هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بالقوي ... وهذا – يعني المرسل - عندي أصح من حديث نصر بن علي عن الهيثم بن الربيع " انتهى.

وله شاهد مرفوع من حديث أبي هريرة يرويه الحاكم في " المستدرك " (١/٧٥٨) وفيه مقدام بن داود ضعيف الحديث، انظر: " لسان الميزان " (٦/٨٤) ، وله شاهد آخر من رواية زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، أسنده أبو عمرو الداني – كما في " النشر " (ص/٧٠٠) -.

وقد ضعف هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم: راويه الإمام الترمذي، والحافظ ابن حجر – كما في " الفتوحات الربانية " (٣/٢٤٨) -، وكذا الشيخ الألباني في " السلسلة الضعفة " (رقم/١٨٣٤) .

الدليل الثالث: عمل السلف الصالحين، ونقل هذه السنة من عادتهم.

قالابن الجزري رحمه الله:

" روى الحافظ أبو عمرو أيضا بإسناد صحيح عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون إذا ختموا القرآن أن يقرؤوا من أوله آيات. وهذا صريح في صحة ما اختاره القراء وذهب إليه السلف " انتهى.

" النشر " (٢/٤٤٩) (ص/٧٠٣)

وقال الحافظ أبو عمرو الداني:

" لابن كثير – يعني المقرئ المشهور - في فعله هذا دلائل من آثار مروية ورد التوقيف فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة والتابعين والخالفين " انتهى.

نقلا عن " النشر في القراءات العشر " لابن الجزري (ص/٦٨٨)

الدليل الرابع: عمل المسلمين بهذه السنة في الأمصار عامة.

قال ابن الجزري رحمه الله:

" وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين في قراءة ابن كثير وغيرها، وقراءة العرض وغيرها، حتى لا يكاد أحد يختم ختمة إلا ويشرع في الأخرى، سواء ختم ما شرع فيه أو لم يختمه، نوى ختمها أو لم ينوه، بل جعل ذلك عندهم من سنة الختم، ويسمون من يفعل هذا " الحال المرتحل "، أي الذي حل في قراءته آخر الختمة، وارتحل إلى ختمة أخرى " انتهى.

" النشر " (ص/٦٩٤) .

وقال النووي رحمه الله:

" يستحب إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى عقيب الختمة؛ فقد استحبه السلف والخلف، واحتجوا فيه بحديث أنس رضي الله عنه ... " انتهى.

"التبيان في آداب حملة القرآن" (ص/١١٠) .

وقال السيوطي رحمه الله:

" يسن إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى عقب الختم لحديث الترمذي وغيره ... " انتهى.

" الإتقان " (١/٢٩٥) ، وانظر: " سنن القراء ومناهج المجودين " (ص/٢٢٧)

القول الثاني: المنع وعدم الاستحباب، نص عليه الإمام أحمد رحمه الله.

ووجه ذلك القول عدم ورود ذلك الفعل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة، وعرضه مرتين في العام الذي توفي فيه، ولم ينقل لنا أحد شيئا عن هذه السنة المتبعة اليوم.

قال ابن قدامة رحمه الله:

" قال أبو طالب: سألت أحمد إذا قرأ: (قل أعوذ برب الناس) يقرأ من البقرة شيئا؟ قال: لا. فلم يستحب أن يصل ختمته بقراءة شيء، ولعله لم يثبت فيه عنده أثر صحيح يصير إليه " انتهى.

" المغني " (١/٨٣٨)

وجاء في " الفروع " (١/٥٥٤) :

" ولا يقرأ الفاتحة وخمسا من البقرة نص عليه، قال الآمدي: يعني قبل الدعاء، وقيل يستحب " انتهى.

وقال ابن مفلح في " الآداب الشرعية " (٢/٣١٦) :

" إذا فرغ من قراءة الناس لم يزد الفاتحة وخمسا من البقرة، نص عليه، وذلك إلى قوله: (وأولئك هم المفلحون) قال في الشرح: ولعله لم يثبت فيه عنده أثر صحيح، وقيل: يجوز بعد الدعاء، وقيل: يستحب.

قال القاضي بعد ذكره لمعنى هذا الخبر من حديث أنس رواه ابن أبي داود – يعني حديث الحال المرتحل - قال: وظاهر هذا أنه يستحب ذلك، والجواب أن المراد به الحث على تكرار الختم ختمة بعد ختمة، وليس في هذا ما يدل على أن الدعاء لا يتعقب الختمة " انتهى.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله:

" وفَهِمَ بعضهم من هذا: أنه كلما فرغ من ختم القرآن؛ قرأ فاتحة الكتاب، وثلاث آيات من سورة البقرة؛ لأنه حل بالفراغ، وارتحل بالشروع!

وهذا لم يفعله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا استحبه أحد من الأئمة ...

وقد جاء تفسير الحديث متصلا به: أن يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل. وهذا له معنيان: أحدهما: أنه كلما حل من سورة أو جزء ارتحل في غيره. والثاني: أنه كلما حل من ختمة ارتحل في أخرى " انتهى.

" إعلام الموقعين " (٤/٣٠٦)

والقول الثاني أظهر من حيث الأدلة، إن شاء الله، لعدم ثبوت دليل على استحباب مثل ذلك، بل ظاهر السنة خلافه، كما تقدم بيانه، وقد سبق اختيار هذا القول في جواب رقم: (١٢٠٣٢)

على أننا ننبه ـ هنا ـ إلى أن المسألة، رغم ما رجحناه، هي مسألة اجتهادية، وليست من المسائل القطعية؛ فمن صح عنده أن السلف كانوا يفعلون ذلك، أو اعتقد صحة الحديث الوارد فيه: فإنه لا يبدع ولا يضلل؛ بل لا ينكر عليه.

وهكذا من ترجح عند القول الذي اخترناه، فإنه لا ينكر عليه؛ بل إن الإمام ابن الجزري، رحمه الله، وهو من القائلين بمشروعية ذلك، يقول:

" وعلى كل تقدير فلا نقول: إن ذلك لازم كل قارئ، بل نقول كما قال أئمتنا فارس بن أحمد وغيره: من فعله فحسن، ومن لم يفعله فلا حرج عليه " انتهى.

" النشر " (ص/٧٠٤)

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>