هل نستطيع الاجتهاد في العبادة كاجتهاد السابقين الأولين؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد اشتهر الصالحون السابقون بحب العبادة، والتفاني في أدائها، مثل: قيام الليل، وقراءة القرآن، وحفظه، فهل نستطيع نحن جيل هذا العصر القيام ولو بالقليل من هذا، مع كل الفتن المحيطة من كل النواحي؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يستطيع الواحد منا أن يجتهد في العبادة ينافس أولئك الرجال بالقيام بما ندبت إليه الشريعة وحثَّ عليه الإسلام، وينبغي أن تكون عند المسلم همة يهد بها الجبال، وقد قيل: (همة الرجال تقلع الجبال) .
والصحابة رضي الله عنهم كانوا للأمة خير قدوة في الطاعة والعبادة، ومع هذا فلم يمنع ذلك مَنْ بعدهم أن يحثوا أنفسهم على منافستهم في العبادة حتى لا يستأثروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، واسمع لواحد منهم واعجب لهذه الهمة العظيمة، قال أبو مسلم الخولاني رحمه الله: (أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا به دوننا، كلا والله! لنزاحمنهم عليه زحاماً حتى يعلموا أنهم قد خلَّفوا وراءهم رجالاً!!) .
وقد كان يقول كلمته هذه عندما كان يقوم الليل فإذا تعبت قدماه ضربها بيديه وقال ذلك، فبمثل هذه الهمم يستطيع المسلم أن يقوم بالطاعات والعبادات، وهو من التنافس المحمود المأمور به في قوله تعالى (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) .
ولو لم يكن في مقدور المتأخرين القيام بالأعمال الجليلة في الطاعة والعبادة لما رأينا الله تعالى يحث عباده جميعاً عليها، ويعدهم بالثواب الجزيل إن قاموا بها، ولما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالوصية العظيمة وهي قوله (اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) صححه الألباني رحمه الله في صحيح وضعيف الجامع الصغير، فهي – إذن – دعوة لنا أن نغتنم حياتنا بالطاعة قبل أن يفاجئنا الموت، وأن نغتنم صحتنا قبل العجز والمرض، فالصحيح يستطيع ما لا يستطيعه المريض، وأن نغتنم فراغنا قبل شغلنا بالزوجة والأولاد والأعمال، وأن نغتنم شبابنا حيث النشاط والهمة قبل الكبَر والضعف، وأن نغتنم غنانا بالصدقة والإنفاق قبل سلب ذلك وعجزنا عنه.
وفي المعاصرين أمثلة مشرقة، في حياتهم الطاعة والعبادة، ولا يخلو عصر من عصور المسلمين – ولله الحمد – من أمثال هؤلاء، يشحذون الهمم للقيام بكل ما يحب الله ويرضى من الأقوال والأعمال، ففي هذه الأمة من المعاصرين من قضى عمره في ساحات الجهاد حتى قدَّم نفسه رخيصة لربه تعالى واشترى بها الجنة، ومنهم من جدَّ واجتهد في العلم منذ أن عقل إلى أن مات، ومنهم من حافظ على قيام الليل ولم يعرف عنه تركه لا في سفر ولا في حضر، ومنهم من بذل أمواله كلها في سبيل الله تعالى ولم تجب عليه الزكاة في حياته قط، ومنهم من بذل نفسه للمسلمين يشفع لهذا ويقضي حاجة ذاك، ويجيب السائل ويفتي المستفتي، ويعلم الجاهل ويحث الناس على الخير.
فلن تعدم – أخي – صوراً مشرقة من حياة علمائنا وأئمتنا ومجاهدينا، وسترى في حياتهم ما يحثك على فعل الطاعة ويجعلك تعلم أنه يوجد مجال للمنافسة مع المتقدمين، ونظرة في حياة الأئمة الثلاثة: عبد العزيز بن باز والألباني وابن عثيمين تجد فيها العلم والتعليم والجد والاجتهاد والبذل والإنفاق والشفاعة والدعوة، ولا يزال المسلمون يقدمون أروع الأمثلة في جهادهم الكفار في الأرض كلها.
وفي حفظ القرآن نماذج صالحة كثيرة، فقد حفظ كثيرون القرآن وهم لم يبلغوا الثامنة من عمرهم، وقد وجد من حفظ القرآن كاملاً في شهرين، بل في شهر.
وينبغي على المسلم المحب للقيام بالطاعة والعبادة والراغب بالتنافس مع من قبله أو مع من عاصره من أهل الهمم أن يحذر من أشياء:
أولها: الغفلة عن الآخرة وما فيها من ثواب جزيل وأجر عظيم، قال ابن القيم - رحمه الله – في " بدائع الفوائد " (ص ٩٨) : خراب القلب من الأمن والغفلة، وعمارته من الخشية والذكر.
وثانيها: أن يترك التنافس على الدنيا مع أهلها وليدعها لهم ولتتطلع نفسه لعالي الأمور، وأن يحذر أن يجعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، وأن يجعل المال والمتاع في يده لا في قلبه.
وثالثها: الابتعاد عن التأجيل والتسويف، وعليه أن يبادر بالقيام بالأعمال استجابة لأمر الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) آل عمران/١٣٣ وقال (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) الحديد/٢١.
والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب