للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل يراعي ذوق الناس وعرفهم فيسبل المسلم ثوبه؟ وهل في البنطال إسبال؟

[السُّؤَالُ]

ـ[ما حكم لبس السروال تحت الكعب في مجتمعاتنا الحاضرة من غير مخيلة؟ إذ أن رفعه فوق الكعب يفسد منظر الشخص، ويلفت انتباه الغير، أرجو ألا تروا في سؤالي مجادلة أو ازدراء، إنما هو استفسار جاد، وهذا الأمر يهمني كثيراً، خصوصا في مجال العمل.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

اعلم أخي السائل أن أحكام الشريعة المطهرة لم تأتِ لتجعل المسلم ذليلاً أو أضحوكة بين الناس، بل جاءت بما فيه الخير للناس جميعاً في دينهم ودنياهم، وتأمَّل في أحوال العالم تجد صدق هذا القول، فقد فشت مخالفات الأمم للإسلام في حياتهم الدنيوية كثيراً، وانظر – على سبيل المثال – آثار الاختلاط بين النساء والرجال على أحوال الأمم، وانظر آثار إباحة الخمور، وانظر آثار التبرج والسفور، وانظر آثار الحرية الزائفة على تلك الأمم، إنهم أكثر الأمم إصابة بالقلق، والاكتئاب، إنهم أكثر الأمم انتحاراً، إنهم أكثر الأمم ضرباً للزوجات وقتلاً لهنَّ، والأمثلة كثيرة جدّاً، وما نقوله موثق من إحصائيات أنفسهم، وليس هذا مجال تفصيل ذلك، وإنما هي إيماءة لما نريد إيصاله لك ولغيرك من القراء الذين قد يوسوس لهم الشيطان بقبح القيام ببعض الشعائر الثابتة في الإسلام، ولا نراك – إن شاء الله – من أولئك، ولكن لا يمنع هذا من التنبيه عليه، والإشارة إليه.

ثانياً:

واعلم أخي الفاضل أنه لا ينبغي للمسلم مراعاة الناس وأعرافهم إذا تعلَّق الأمر بواجب أمره الله تعالى به، أو بمحرَّم نهاه الله تعالى عن فعله.

نعم، يمكن للمسلم مراعاة أحوال الناس وأعرافهم في باب المستحبات، والمباحات، والمكروهات، أما باب الواجبات والمحرمات: فلا يجوز له البتة التنازل عنهما من أجل الناس.

ويستدل بعض الناس خطأ بحديث عائشة في ترك النبي صلى الله عليه وسلم لهدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام، فيجعلونه دليلاً على التنازل عن الواجبات، وهو خطأ ظاهر، ولو كان هذا واجباً عليه صلى الله عليه وسلم ما تركه من أجل تأليف قلوب الناس، بل كان جائزاً، وإليك الحديث كاملاً، وكلام أهل العلم حوله.

عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال لهَا: يَا عَائِشَةُ لوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِليَّةٍ لأَمَرْتُ بِالبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلزَقْتُهُ بِالأَرْضِ وَجَعَلتُ لهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ.

رواه البخاري (١٥٠٩) ومسلم (١٣٣٣) .

وفي لفظ عندهما: (فأخافُ أنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهم) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:

ومعلوم أن الكعبة أفضل وقف على وجه الأرض، ولو كان تغييرها وإبدالها بما وصفه واجباً: لم يتركه، فعُلم أنه كان جائزاً، وأنه كان أصلح، لولا ما ذكره من حدثان عهد قريش بالإسلام، وهذا فيه تبديل بنائها ببناء آخر، فعُلم أن هذا جائز في الجملة، وتبديل التأليف بتأليف آخر هو أحد أنواع الإبدال.

" مجموع الفتاوى " (٣١ / ٢٤٤) .

وقال – رحمه الله -:

فترك الأفضل عنده لئلا ينفر الناس، وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فأم بقوم لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم: كان قد أحسن.

" مجموع الفتاوى " (٢٢ / ٢٦٨، ٢٦٩) .

وقال – رحمه الله -:

وقد ينتقل – أي: النبي صلى الله عليه وسلم - عن الأفضل إلى المفضول؛ لما فيه من الموافقة، وائتلاف القلوب، كما قال لعائشة (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولجعلت لها بابين) ، فهنا تركَ ما هو الأولى؛ لأجل الموافقة، والتأليف الذي هو الأدنى من هذا الأولى.

" مجموع الفتاوى " (٢٦ / ٩١) .

ثالثاً:

وبخصوص إسبال الثياب عموماً، والسروال خصوصاً: ينبغي التنبيه على أمور:

١. إسبال الثياب حتى تلامس الكعبين من كبائر الذنوب، وليس تحريم الإسبال مقيَّداً بالكِبْر، بل هو محرَّم لذاته، وهو نفسه من الكِبْر، فإذا أضيف إليه كِبْر قلبي: كان الإثم أكبر.

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:

قال ابن العربي رحمه الله: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول " لا أجره خيلاء "؛ لأن النهي قد تناوله لفظا، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكماً أن يقول " لا أمتثله؛ لأن تلك العلة ليست فيَّ ": فإنها دعوى غير مسلَّمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره ا. هـ ملخصاً.

وحاصله: أن الإسبال يستلزم جرَّ الثوب، وجرُّ الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده: ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه: (وإياك وجر الإزار؛ فإن جر الإزار من المَخِيلة) .

" فتح الباري " (١٠ / ٢٦٤) .

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:

(وإياك والإسبال فإنه من المَخِيلة) ، فجعل الإسبال كلَّه من المَخِيلة؛ لأنه في الغالب لا يكون إلا كذلك، ومَن لم يسبل للخيلاء: فعمله وسيلة لذلك، والوسائل لها حكم الغايات.

" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (٦ / ٣٨٣) .

وينظر في ذل جواب السؤال رقم (٧٦٢) ففيه بيان أدلة تحريم الإسبال.

٢. لا يحل لأحدٍ أن يقسِّم الدين إلى لبٍّ وقشور، ويجعل هؤلاء المقسِّمون إسبال الإزار وحلق اللحية من القشور! وهذا خطأ وسببه الجهل بحكم الشرع، وهذا الفعلان من كبائر الذنوب، فانظر لتهوين هؤلاء المقسمين من ارتكاب الكبائر بقولهم السوء ذاك.

وانظر الرد عليهم في جواب السؤال رقم (١٢٨٠٨) .

٣. الإسبال ليس فقط في الثوب، بل في الإزار والسراويل والبناطيل والعباءات، وكل ما يلبسه المسلم من ثياب.

٤. وننبه إلى أن الذي يُلبس إلى نصف الساق هو الإزار، أما الثوب والبنطال فلا يُلبسان كذلك، بل يُلبسان فوق الكعبين، ولا يحل أن يلمسا الكعبين.

وقد بيَّنا هاتين المسألتين (٤ و ٥) في جواب السؤال رقم: (١٠٥٣٤) فلينظر.

٥. لا يحل لبس البنطال – وهو المقصود فيما ظهر لنا من قول السائل " السروال " إذا كان ضيقاً يصف العورة.

ولينظر جواب السؤال رقم: (٦٩٧٨٩) .

وأخيراً:

٧. إسبال البنطال من كبائر الذنوب، وعليه: فلا اعتبار لذوق الناس ورأيهم في تقصيره وفقاً للسنَّة النبويَّة، كما بينَّا في أول الجواب، ونعجب – حقيقة – ممن ينظر لهذا التقصير على أنه مفسد لمنظر المسلم، ولا يرى تقصير ثياب النساء إلى نصف الفخذ كذلك، ولا يرى البناطيل الضيقة المقززة التي يلبسها بعض الشباب كذلك، ولا يرى البناطيل الساحلة! التي خرج بها علينا بعض الشباب كذلك، ولا يرى قصات الشباب والشابات التي تشبهوا بها بالحيوانات كذلك – قصة الأسد، وعُرف الديك، والبطة، والفأر -.

وعلى الأخ الذي يلتزم تقصير الثوب أن لا يبالغ في ذلك، فحكم إسبال الثياب محرَّم، وليس فيه مجال مراعاة للناس، أما المبالغة في التقصير فهي التي فيها المجال، وعلى الإخوة الذين يلتزمون هذا الهدي أن لا يعرِّضوا أنفسهم للسخرية، وأن لا يفتحوا مع الناس هذه المسألة على حساب غيرها، وأن لا يجعلوا بينهم وبين الناس حاجزاً بمثل هذه الأفعال التي وسَّعت فيها الشريعة، ويمكنهم مراعاة أعراف بلدانهم، ولو أطال ثيابه إلى ما قبل الكعبين بقليل من أجل منع الناس من السخرية، ومن أجل عدم وضع حواجز بينه وبين الناس: لرُجي أن يؤجر أكثر من أجر تقصير ثيابه بأكثر مما فعل.

فإسبال البنطال إلى ما تحت الكعبين من المحرمات التي لا يراعى فيها ذوق الناس وعرفهم، وليس للمكلف أن يخالف في هذا من أجل الناس، أما حد التقصير: فلو راعى المكلَّف عرف بلده، ونظرة الناس له: لكان أفضل له وأسلم.

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:

اللباس إلى نصف الساق سنَّة، وإلى ما تحت نصف الساق سنَّة، الممنوع: أن يكون أسفل من الكعبين، فإن الصحابة رضوان الله عليهم وهم أجلُّ قدراً ممن بعدهم، وأحب للخير لمن بعدهم: كانت ألبستهم تصل إلى الكعب، أو إلى ما فوقه يسيراً، كما قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: " يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي عليَّ إلا أن أتعهده "، وهذا يدل على أن إزاره ينزل عن نصف ساقه؛ لأنه لو كان إلى نصف ساقه واسترخى عليه حتى يصل إلى الأرض لزم من ذلك انكشاف عورته من فوق، وهذا هو المعروف بين الصحابة.

فإذا رأيت مثلاً: أن الناس يكرهون اللبس إلى نصف الساق أو أعلى، وأنك لو لبست كما يلبس الناس في غير إسراف ولا مخيلة أدعى لقبول كلامك: الحمد لله، اترك هذا الذي تريد أن تفعله؛ تأليفاً للقلوب؛ وقبولاً للكلام، ولهذا أجد الناس الآن تلين قلوبهم للناصح إذا كان لباسه على العادة، لكنه ليس محرَّماً، أكثر مما تميل إلى الذين يرفعون لباسهم إلى نصف الساق أو أكثر، والإنسان قد يدع المستحب لحصول ما هو أفضل منه، هذا وأرى أنه إذا قال له والداه: أنزل ثوبك إلى أسفل من نصف الساق: أرى أنه يطيعهما في هذا الحال؛ لأنه كله سنَّة، والحمد لله، كلٌّ عمل به الصحابة رضي الله عنهم.

" لقاءات الباب المفتوح " (٨٣ / السؤال رقم ١٤) .

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>