أحاديث نبوية في ذم الإسراف في الطعام
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة هذين الحديثين لو سمحتم: روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع؛ فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، وضعفت قلوبهم، وجمحت شهواتهم) رواه البخاري. ولقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نأكل كل ما تشتهيه الأنفس؛ فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من الإسراف أن تأكل ما اشتهيت) رواه ابن ماجه. وهل هناك في الشرع شيء ينهى أن يسرف المسلم في أكله، أو أن لا يستطيع التحكم في أكله ويأكل في كل وقت وحين؟ حديث أو آية أو كتاب ممكن أن تنصحون به ينهى المسلم عن هذه الأمور، أو يكلمنا عن هدي الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، عن أكله ومطعمه. جزاكم الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
شهوة البطن من أعظم المهلكات، وسببُ كثيرٍ من الآفات والأمراض القلبية والبدنية، إذ تتبعها شهوة الفرج، ثم الرغبة في الجاه والمال لتحقيق هاتين الشهوتين، ويتولد من ذلك من أمراض القلوب الرياء والحسد والتفاخر والكبر بسبب الانشغال بالدنيا، وغالبا ما يدفعه ذلك إلى المنكر والفحشاء، كله بسبب هذه الشهوة، وقد قالت العرب قديما: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء.
يقول الله عز وجل: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف/٣١
وفي السنة النبوية من الحث على الاعتدال في الطعام، وذم الإسراف الشيء الكثير:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاتٍ يُقِمْنِ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاْ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) رواه الترمذي (٢٣٨٠) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (٢٢٦٥)
وعَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَأْكُلُ حَتَّى يُؤْتَى بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ، فَأَدْخَلْتُ رَجُلًا يَأْكُلُ مَعَهُ، فَأَكَلَ كَثِيرًا، فَقَالَ: يَا نَافِعُ! لَا تُدْخِلْ هَذَا عَلَيَّ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ) رواه البخاري (٥٣٩٣) ومسلم (٢٠٦٠)
يقول النووي في شرح هذا الحديث (١٤/٢٥) :
" قال العلماء: ومقصود الحديث التقليل من الدنيا، والحث على الزهد فيها والقناعة، مع أن قلة الأكل من محاسن أخلاق الرجل، وكثرة الأكل بضده، وأما قول ابن عمر فى المسكين الذى أكل عنده كثيرا: " لا يدخلن هذا علي "، فإنما قال هذا لأنه أشبه الكفار، ومن أشبه الكفار كرهت مخالطته لغير حاجة أو ضرورة؛ ولأن القدر الذى يأكله هذا يمكن أن يسد به خلة جماعة " انتهى.
وقد سبق في موقعنا ذكر أحاديث أخرى في هذا الباب، فانظر سؤال رقم (٧١١٧٣)
ثانيا:
يلخص لنا ابن القيم رحمه الله تعالى هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الطعام والشراب، ويستخلصه من الأحاديث الصحيحة، فيقول – كما في "زاد المعاد" (١/١٤٧) -:
" وكذلك كان هديُه صلى الله عليه وسلم وسيرتُه في الطعام، لا يردُّ موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، فما قُرِّبَ إليه شيءٌ من الطيبات إلا أكله، إلا أن تعافَه نفسُه، فيتركَه من غير تحريم، وما عاب طعاماً قطُّ، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، كما ترك أكل الضَّبِّ لمَّا لَمْ يَعْتَدْهُ، ولم يحرمه على الأمة، وأكل الحلوى والعسل، وكان يُحبهما، وأكل لحم الجزور، والضأن، والدجاج، ولحم الحُبارى، ولحم حِمار الوحش، والأرنب، وطعام البحر، وأكل الشواء، وأكل الرُّطبَ والتمرَ ... ولم يكن يردُّ طَيِّباً، ولا يتكلفه، بل كان هديه أكلَ ما تيسر، فإن أعوزه صَبَرَ حتى إنه ليربِطُ على بطنه الحجر من الجوع، ويُرى الهلالُ والهلالُ والهلالُ ولا يُوقد في بيته نارٌ " انتهى باختصار.
ثالثا:
ذكر العلماء فوائد الاعتدال في الطعام وعدم الإسراف، ومنها:
١- صفاءُ القلبِ وإيقادُ القريحة وإنفاذ البصيرة، فإنّ الشبعَ يورثُ البلادةَ ويُعمي القلب، ولهذا جاءَ في الحكمة (مَن أجاعَ بطنَه عظُمت فكرتُه وفَطُن قلبُه) .
٢- الانكسارُ والذلُ وزوالُ البَطَرِ والفرحِ والأشرِ، الذي هو مبدأُ الطغيانِ والغفلةِ عن الله تعالى.
٣- أن لا ينسى بلاءَ الله وعذابه، ولا ينسى أهلَ البلاء، فإن الشبعانَ ينسى الجائعَ وينسى الجوع، والعبدُ الفطنُ لا يجدُ بلاءَ غيرِه إلا ويتذكرُ بلاءَ الآخرة.
٤- من أكبر الفوائد: كسرُ شهواتِ المعاصي كلّها، والاستيلاءُ على النفسِ الأمّارةِ بالسوء، فإنَّ منشأَ المعاصي كلِّها الشهواتُ والقوى، ومادةُ القوى والشهواتِ لا محالة الأطعمة. قال ذو النون: ما شبعتُ قطُّ إلا عصيتُ أو هممتُ بمعصية.
٥- دفعُ النومِ ودوامُ السَّهر، فإنَّ مَن شَبِع كثيرًا شرب كثيرًا، ومن كثر شربُه كثرَ نومه، وفي كثرةِ النومِ ضياعُ العمر وفوتُ التهجدِ وبلادةُ الطبعِ وقسوةُ القب، والعمرُ أنفسُ الجواهرِ، وهو رأسُ مالِ العبدِ، فيه يتجر، والنومُ موت، فتكثيره يُنقِصُ العمر.
٦- صحةُ البدن ودفعُ الأمراض، فإن سببَها كثرةُ الأكل وحصولُ الأخلاط في المعدة، وقد قالَ الأطباء: البِطْنةُ أصلُ الداء، والحِميةُ أصلُ الدواء.
" ملخصة من إحياء علوم الدين (٣/١٠٤-١٠٩) "
رابعا:
أما الأحاديث المذكورة في السؤال فلم يصح منها شيء:
الحديث الأول:
قالت عائشة رضي الله عنها: (إن أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد قضاء نبيها صلى الله عليه وسلم: الشبع، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، فتصعبت قلوبهم، وجمحت شهواتهم) رواه البخاري في "الضعفاء" – كما عزاه إليه الذهبي في "ميزان الاعتدال" (٣/٣٣٥) - ورواه ابن أبي الدنيا في "الجوع" (رقم/٢٢)
من طريق غسان بن عبيد الأزدي الموصلي، قال: حدثنا حمزة البصري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة به.
قلت: وهذا السند ضعيف جدا بسبب غسان بن عبيد، جاء في ترجمته في "لسان الميزان" (٤/٤١٨) : " قال أحمد بن حنبل: كتبنا عنه، قدم علينا ههنا ثم حرقت حديثه. قال ابن عدي: الضعف على حديثه بين. – وفي رواية عن يحيى بن معين - ضعيف ... - ثم عد حديث عائشة الذي معنا من مناكيره – " انتهى بتصرف.
ولذلك قال الشيخ الألباني في "ضعيف الترغيب" (١٢٣٩) : " منكر موقوف " انتهى.
تنبيه: جاء في السؤال نسبة هذا الحديث إلى البخاري، وهذا خطأ كبير؛ لأن إطلاق القول بـ: " رواه البخاري "، ينصرف عادة إلى الصحيح، والبخاري له كتب أخرى كثيرة، يروي فيها الأحاديث بأسانيده، ولا يشترط فيها الصحة، منها كتاب "الضعفاء الصغير" وهو مطبوع، وله كتاب "الضعفاء الكبير": ذكره ابن النديم وبروكلمان في "تاريخ الأدب" (ص/٦٥) وأنه ما زال مخطوطا في مكتبة "بتنة" في الهند؛ فإذا قدر أن البخاري روى حديثا في شيء من كتبه، سوى الصحيح الذي هو أعظم دواوين الإسلام، فينبغي أن يبين عند نسبة الحديث: رواه البخاري في التاريخ، أو: في الضفعاء، أو في الأدب المفرد..، مثلا، ثم يبحث في سند الحديث: هل هو صحيح أو لا، كما هو الحال في الكتب الأخرى.
وحديث عائشة هذا لعله في "الضعفاء الكبير"، فقد بحثنا عنه في "الصغير" فلم أجده، كما أن الضعفاء الصغير نادرا ما يذكر فيه الأحاديث والأسانيد. والله أعلم.
الحديث الثاني:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ) رواه ابن ماجه (٣٣٥٢) وأبو يعلى في "المسند" (٥/١٥٤) وأبو نعيم في "الحلية" (١٠/٢١٣) والبيهقي في "شعب الإيمان" (٥/٤٦) وغيرهم من طرق عن بقية بن الوليد حدثنا يوسف بن أبي كثير عن نوح بن ذكوان عن الحسن عن أنس مرفوعا.
وهذا السند ضعيف جدا، فيه عدة علل، منها:
١- يوسف بن أبي كثير: قال عنه ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (١١/٤٢١) : " أحد شيوخ بقية الذين لا يعرفون " انتهى.
٢- نوح بن ذكوان: منكر الحديث: جاء في ترجمته في "تهذيب التهذيب" (١٠/٤٨٤) :
" قال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا، يجب التنكب عن حديثه ... وقال أبو نعيم: روى عن الحسن المعضلات، وله صحيفة عن الحسن عن أنس: لا شىء " انتهى باختصار.
ولذلك ضعف الحديث غير واحد من أهل العلم: ابن حبان في "المجروحين" (٣/٤٧) ، وابن عدي في "الكامل" (٨/٢٩٩) ، وابن الجوزي في "الموضوعات" (٣/١٨٢) ، والبوصيري في "مصباح الزجاجة" (٢/١٨٨) والسخاوي في "المقاصد الحسنة" (٥١٥) ، وقال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (رقم/٢٤١) : موضوع.
وفيما سبق من الأحاديث الصحيحة غنى عن هذين الحديثين الضعيفين، ومن أراد التوسع في هذا الموضوع فليرجع إلى كتاب: " الجوع " لابن أبي الدنيا، و "مختصر منهاج القاصدين " لابن قدامة، "زاد المعاد" لابن القيم، و "شرح رياض الصالحين" للشيخ ابن عثيمين.
وانظر جواب السؤال رقم (٦٥٠٣)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب