يستطيع أن يقيم دينه في دول الكفر أكثر من بلاده، فهل تلزمه الهجرة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أعيش في إحدى الدول الغربية، وأستطيع بحمد الله أداء شعائر ديني دون مضايقة، وقد اطلعت في موقعكم على بعض الأحاديث النبوية التي تمنع الإقامة في بلاد الكفر والسكن بين الكفار، وأصبحت الآن في حيرة هل أرجع إلى بلدي أم أبقى في هذه البلاد، علماً بأني إذا رجعت إلى بلدي تعرضت لمضايقات وأذى بسبب التزامي بأحكام الله، ولن أستطيع أن أجد من الحرية في عبادتي ما أجده في البلد الذي أقيم فيه.
فأرجو منكم الإجابة على سؤالي وبيان حكم إقامتي في هذا البلد، لاسيما أن بلاد المسلمين أصبحت لا تختلف كثيراً عن غيرها من ناحية الالتزام بشعائر الإسلام.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأصل أنه لا يجوز للمسلم أن يقيم بين المشركين، وعلى هذا دلت الأدلة من الكتاب والسنة والنظر الصحيح.
أما الكتاب؛ فقد قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) النساء / ٩٧.
وأما السنة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ) . رواه أبو داود (٢٦٤٥) . وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
وأما النظر الصحيح؛ فإن المسلم المقيم بين المشركين لا يستطيع أن يقيم كثيراً من شعائر الإسلام وعباداته الظاهرة، مع ما في ذلك من تعريضه نفسَه للفتن، لما في تلك البلاد من الإباحية الظاهرة التي تحميها قوانينهم، وليس للمسلم أن يعرض نفسه للفتن والابتلاءات.
هذا إذا نظرنا إلى أدلة الكتاب والسنة نظرةً مجردةً عن واقع الدول الإسلامية ودول الكفر. وأما إذا نظرنا إلى واقع الدول الإسلامية فإننا لا نوافق السائل على قوله (وخصوصا أن بلاد المسلمين أصبحت لا تختلف كثيراً عن غيرها من ناحية الالتزام بشرائع الإسلام) فهذا التعميم غير صحيح، فليست الدول الإسلامية على درجة واحدة من البعد أو القرب من الالتزام بشرائع الإسلام، بل هي متفاوتة في ذلك، بل البلد الواحد يتفاوت باختلاف مناطقه ومدنه.
ثم دول الكفر أيضاً ليست على درجة واحدة من الإباحية والتحلل الخلقي، بل هي متفاوتة في ذلك أيضاً.
فنظراً لهذا التفاوت بين الدول الإسلامية بعضها البعض، وبين دول الكفر بعضها البعض.
ونظراً لأن المسلم لا يستطيع أن يذهب إلى أي دولة إسلامية ويقيم بها - لوجود قوانين التأشيرات والإقامة الصارمة وما أشبه ذلك -.
ونظراً لأن المسلم قد لا يتمكن من إقامة دينه في بعض الدول الإسلامية، في حين أنه قد يتمكن من ذلك أو من بعضه على الأقل في بعض دول الكفر.
فلكل ما سبق لا يمكن الآن أن يصدر حكم عام يعم جميع البلاد وجميع الأشخاص، بل يقال: لكل مسلم حالته الخاصة به، وحكمه الخاص به، وكل امرئ حسيب نفسه، فإن كانت إقامته لدينه في الدول الإسلامية التي يمكنه أن يسكن بها أكثر من إقامته لدينه في بلاد الكفر لم يجز له الإقامة في دول الكفر، وإن كان الأمر بالعكس جازت إقامته في دول الكفر بشرط أن يأمن على نفسه من الشهوات والفتن التي بها بأن يحصن نفسه منها بالوسائل المشروعة.
وهذه أقوال لأهل العلم تؤيد ما سبق:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذه المسألة فقال: إن هذه المسألة من أشكل المسائل الآن نظراً لاختلاف البلدان كما سبق بيانه، ولأن بعض المسلمين المقيمين في دول الكفر إذا رجعوا إلى بلدهم اضطهدوا وعذبوا وفتنوا عن دينهم في حين أنهم يأمنون من ذلك في دول الكفر، ثم إذا قلنا: لهم يحرم عليكم الإقامة بين الكفار. فأين الدولة الإسلامية التي تستقبلهم وتسمح لهم بالإقامة فيها؟! هذا معنى كلامه رحمه الله.
قال زكريا الأنصاري الشافعي في كتابه "أسنى المطالب" (٤/٢٠٧) :
تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الإِسْلامِ عَلَى مُسْتَطِيعٍ لَهَا إنْ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ اهـ.
وقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ المالكي: الْهِجْرَةُ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الإِسْلامِ , وَكَانَتْ فَرْضًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَمَرَّتْ بَعْدَهُ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ اهـ. من "نيل الأوطار" (٨/٣٣) للشوكاني.
وقال الحافظ ابن حجر عن قوله صلى الله عليه وسلم: (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ) قال:
وَهَذَا مَحْمُول عَلَى مَنْ لَمْ يَأْمَن عَلَى دِينه اهـ. "فتح الباري" شرح حديث رقم (٢٨٢٥) .
وفي "الموسوعة الفقهية" (٢٠/٢٠٦) :
دَارُ الْحَرْبِ: هِيَ كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً. (من) الأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ: الْهِجْرَةُ. قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّاسَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى ثَلاثَةِ أَضْرُبٍ:
أ - مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ , وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا , وَلا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى لا تَجِدُ مَحْرَمًا , إنْ كَانَتْ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا فِي الطَّرِيقِ , أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ أَقَلَّ مِنْ خَوْفِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. . .
ب - مَنْ لا هِجْرَةَ عَلَيْهِ: وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا , إمَّا لِمَرَضٍ , أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ , أَوْ ضَعْفٍ كَالنِّسَاءِ , وَالْوِلْدَانِ. لقوله تعالى: (إلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا) .
ج - مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ , وَلا تَجِبُ عَلَيْهِ , وَهُوَ: مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْجِهَادِ , وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ اهـ. باختصار
وفي فتاوى اللجنة الدائمة ١٢/٥٠:
وتكون الهجرة أيضاً من بلاد شرك إلى بلاد شرك أخف شراً، وأقل خطراً على المسلم، كما هاجر بعض المسلمين من مكة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بلاد الحبشة. أ. هـ
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب