يتأخر عن الجماعة خشية أن يؤم المصلين
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب ملتزم وأحب الصلاة، لكني في بعض الأحيان أذهب إلى المسجد متأخرا؛ لأني أخاف أن أؤم المصلين، إذا جئت أصلي بهم يكون عندي بعض الخوف، وخاصة في الصلوات الجهرية، فهل علي إثم إذا لم أصلِّ بهم، وإذا تأخرت عن الصلاة، وهل هناك طرق علاجية لإزالة الخوف مني لكي أتمكن من الصلاة بهم، برغم أني إذا صليت وحدي لا أخاف؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المبادرة إلى الجماعة، والتبكير في الذهاب إلى المساجد من فضائل الأعمال التي يغفل عنها ويقصر فيها كثير من الناس، والمؤمن حين يذوق طعم الإيمان، ويستشعر لذة العبادة، لا يكاد يصبر حتى يسمع النداء ليذهب إلى المسجد، بل تجده مسارعا مسابقا، لا يدخل وقت الصلاة إلا وقد اشتاق إليها، ويصدق عليه وصف النبي صلى الله عليه وسلم لأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وهو الرجل المعلق قلبه في المساجد.
ولا شك أن التبكير إلى صلاة الجماعة والحرصَ على إدراكِ تكبيرتها الأولى دليلٌ على تعظيم هذه الشعيرة، وحبها، والرغبة فيها، وهو دليل أيضا على صلاح العبد ودينه وتقواه.
قال سفيان الثوري: " مجيئك إلى الصلاة قبل الإقامة توقير للصلاة " انتهى.
"فتح الباري" لابن رجب (٣/٥٣٣)
وقال إبراهيم التيمي: " إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه " انتهى. "سير أعلام النبلاء" (٥/٨٤)
وكان وكيع بن الجراح يقول: " من لم يدرك التكبيرة الأولى فلا ترجُ خيره " انتهى.
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (٣/٧٤) .
بل كان بعض السلف يعدون الذهاب إلى المسجد بعد الأذان تقصيرا، وأن الفضل هو في الذهاب قبل النداء.
قال سفيان بن عيينة:
" لا تكن مثل عبد السوء، لا يأتي حتى يُدعَى، ايت الصلاة قبل النداء " انتهى.
التبصرة لابن الجوزي (١٣١)
ونحن نذكر أنفسنا وإياك هنا ببعض فضائل التبكير إلى صلاة الجماعة والمبادرة إليها:
أولا:
روى ابن المنذر – كما في "الدر المنثور" (٢/٣١٤) - عن أنس بن مالك رضي الله عنه في تفسير قول الله سبحانه وتعالى: (سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الحديد/٢١، أنها التكبيرة الأولى. وذكره بعض المفسرين عن مكحول وسعيد بن جبير من التابعين.
ثانيا:
روى عبد الرزاق في "المصنف" (١/٥٢٨) من طريقٍ صحيحٍ عن أنس رضي الله عنه قال:
(من لم تفته الركعة الأولى من الصلاة أربعين يوما كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) .
وجاء عن مِيثم، رجلٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(بلغني أن الملَك يغدو برايته مع أول من يغدو إلى المسجد، فلا يزال بها معه حتى يرجع يدخل بها منزله) .
رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (٥/١٨٣) وصححه ابن حجر في "الإصابة" (٦/١٤٨) والألباني في "صحيح الترغيب" (١/٢٤٢) .
ثالثا:
وفي التبكير إلى صلاة الجماعة تحصيل أجر انتظار الصلاة، والمكث في المسجد، ودعاء الملائكة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي - يَعْنِي عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ - مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ) رواه البخاري (٤٧٧) ومسلم (٦٤٩)
كما فيه تحصيل فضيلة الصلاة في الصف الأول، وفضيلة إدراك التأمين مع الإمام، فقد جاء في الحديث الصحيح: (إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) رواه البخاري (٧٨٠) ومسلم (٤١٠) .
ومن بكَّر في حضور الجماعة أمكنه الاستفادة من الوقت بين الأذان والإقامة بصلاة السنة الراتبة أو تحية المسجد، وشغل الوقت بالدعاء بخيري الدنيا والآخرة، فإن ما بين الأذان والإقامة من مواطن إجابة الدعاء.
رابعا:
وفي هدي السلف الصالح من النماذج التي تبعث الهمة في القلب، وتبث العزيمة في النفس، وتدعو كل مقصِّرٍ ومفرِّطٍ إلى الحياء من رب العالمين، حيث يتسابق إليه العباد والزهاد، وهو في غفلته ساه عن الأجر والمغنم.
يروي ابن شاهين في كتابه "الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك" (رقم/١٠٧) عن الحسن عن أنس رضي الله عنه قال:
(اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم حذيفة، قال رجل منهم: ما يسرني أني فاتتني التكبيرة الأولى مع الإمام وأن لي خمسين من الغنم. وقال الآخر: ما يسرني أنها فاتتني مع الإمام وأن لي مائة من الغنم. وقال الآخر: ما يسرني أنها فاتتني مع الإمام وأن لي ما طلعت عليه الشمس. وقال الآخر: ما يسرني أنها فاتتني مع الإمام وأني صليت من العشاء الآخرة إلى الفجر) .
وعن أبي حرملة عن ابن المسيب قال: " ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة " انتهى. السير (٤/٣٠) . يعني أنه كان يصلي في الصف الأول.
خامسا:
ويخشى على من يعتاد التأخر عن صلاة الجماعة، وإهمال فضل التكبيرة الأولى أن يؤخره اله عن الأجر والفضل والخير، حيث يرضى لنفسه التأخر، فيكون جزاؤه من جنس عمله.
وقد قال بعض العلماء في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّه) رواه مسلم (٤٣٨) أن المقصود هو من يتأخر عن الصف الأول والتكبيرة الأولى.
وانظر جواب السؤال رقم (٣٤٨٥٢)
سادسا:
وأظنك أخي السائل قد أدركت – بعد كل ما سبق – خطأ ما ترتكبه من تعمد التأخر عن الجماعة، وأن الخوف الذي يدفعك لذلك هو من وحي الشيطان، يريد حرمانك من الأجر والفضل.
ونحن ندرك أن موقف الإمامة موقف فيه من الهيبة والرهبة الشيء العظيم، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يدفعك إلى التقصير فيه، فإذا دخلت المسجد، وكنت أحق من يؤم الموجودين، فتقدم ولا تتأخر، فإن الإثم يلحقك إذا تقدَّمَ الناسَ من لا يُتقن قراءة الفاتحة ولا يحسن إقامة أركان الصلاة.
ونطمئنك بأن الخوف الذي تشعر به عند الإمامة هو شعور عارض، سرعان ما يذهب عنك مع اعتياد الإمامة، فعليك أن تتحمل المشقة في بداية الطريق، ثم سيفتح الله لك باب الخير جزاء صبرك وتحملك.
ويمكنك الاستعانة ببعض ما يهون شعور الخوف الذي يصيبك، فاحرص على الأمور الآتية:
١- التحضير الجيد في مراجعة الآيات التي تريد قراءتها في الصلاة، فإن ذلك يكسبك من الثقة والقوة ما يدفع عنك الخوف والرهبة.
٢- اعتياد الصلاة في البيت بصوت مرتفع، في قيام الليل وصلاة النافلة الليلية، ففي ذلك تعويد للنفس على موقف الإمامة والقراءة.
٣- إمامة الناس في الصلوات السرية، فإن اعتياد الوقوف في مكان الإمام يخفف من رهبة تقدم الناس في الجهرية.
٤- اسْعَ في إقناع النفس بسهولة الأمر، وكيف أن بعض صبيان الصحابة كان يتقدم الناس في مسجد قومه، وأن الأمر لا يعدو قراءة يسيرة سهلة مع خشوع واطمئنان وخضوع لله رب العالمين.
٥- ولا تنس سؤال الله تعالى التوفيق إلى الخير، وتسهيل البر والعمل الصالح.
ونسأل الله تعالى لنا ولك التوفيق والفوز بالنعيم المقيم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب