للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أسباب تكفير الذنوب

[السُّؤَالُ]

ـ[أنا مسلمة متزوجة. وقد وُلدت لعائلة مسلمة. لكني، لم أكن أعلم عن أحكام الإسلام الشيء الكثير. وقد وقعت في الكثير من المعاصي الكبيرة، مما جعلني أشعر وكأني أسوء إنسان في هذا العالم. والآن، فأنا أحاول تحصيل العلم، العلم المتعلق بهذا الدين العظيم، وأن أطبق أحكامه. لكني، لا أشعر بالسلام والراحة في قلبي. أنا دوما أتساءل: كيف لي أن أعرف ما إذا كان الله، رب العالمين، قد غفر لي أم لا؟ ما هي الأمور الصالحة التي يمكنني فعلها كي تمسح ذنوبي العظيمة التي وقعت فيها سابقا؟ كيف لي أن أتقرب من ربي؟ يا الله، أرني ما يدل على أنك رحمتني.

أنا لا أستطيع أن أنام بشكل جيد، ولا أستطيع أن أرتاح، ولا أستمتع بأي شيء. أنا أشعر دوما وكأني سأموت في أي وقت وسيسألني الله. كيف أجيبه سبحانه، فأنا ليس عندي ما أقوله. أنا أبكي من داخلي دائما. يا الله، أخبرني كيف أتخلص من جميع ذنوبي.

أنا أكتب لك لأني قرأت كتابك "أريد أن أتوب، ولكن.." مرارا. وأشعر بعد قراءتها بشيء من الراحة عندما أقرأ قول الله تعالى: "لا تقنطوا من رحمة الله.." الآية ٥٣ من سورة الزمر. وهذا هو الأمل الوحيد في حياتي.

هل تظن أن الله سيغفر لي وأنا تلك المرأة العاصية التي وقعت في كل معاصي؟ لقد صليت صلاة التوبة وأنا أحاول أن أغير طريقة حياتي في جميع الجوانب ليرضى ربي علي. أتعهد بأن أتبع أحكام الإسلام فيما بقي من عمري.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

الحمد لله الذي وفقك للتوبة، وهداك بعد الضلال، وأنار لك الطريق، وحبب إليك الإيمان وزينه في قلبك، فله الحمد أولاً وآخراً.

ثم هنيئاً لكِ أيتها السائلة على التوفيق للتوبة، وهذه نعمة تحتاج إلى شكر، فالله يتوب على من تاب. يُراجع السؤال (١٤٢٨٩) .

ثانياً:

قولك: " كيف أعرف أن الله قد غفر لي أم لا؟ "

اعلمي بأن من تاب توبة ً صادقة تاب الله عليه والله غفور رحيم، وعد من تاب أن يغفرله ذنوبه فقال: (قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر/٥٣، والله إذا وعد فإنه لا يخلف الميعاد.

وقال تعالى: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٠) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) الفرقان/٧١. ففي هذه الآية بين الله لنا أنه يبدل سيئات التائب إلى حسنات، وهذا من فضائل التوبة.

ثالثاً: قولك: " كيف أتخلص من ذنوبي؟ "

هذه مسألة مهمة، وهي الأسباب التي تكفر الذنوب: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

" عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب:

أحدها: التوبة، وهذا متفق عليه بين المسلمين. قال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) ،وقال تعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وان الله هو التواب الرحيم} ، وقال تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) ، وأمثال ذلك.

السبب الثاني: الاستغفار كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا أذنب عبدٌ ذنباً فقال أي رب أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي.. الحديث ". رواه البخاري (٦٩٥٣) ومسلم (٤٩٥٣) .

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون ثم يستغفرون فيُغفَرُ لهم " (التوبة/٤٩٣٦) .

السبب الثالث:الحسنات الماحية، كما قال تعالى: (أقم الصلاة طرفي النهار وزُلَفَاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) ، وقال صلى الله عليه وسلم: " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " رواه مسلم (٣٤٤) وقال: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفِرَله ما تقدم من ذنبه " رواه البخاري (٣٧) ومسلم (١٢٦٨) ، وقال: " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِرَله ما تقدم من ذنبه " رواه البخاري (١٧٦٨) ، وقال: " من حجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه " رواه البخاري (١٦٩٠) ، وقال: " فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " رواه البخاري (٤٩٤) ومسلم (٥١٥٠) ، وقال: " من أعتق رقبةً مؤمنةً أعتق الله بكل عضوٍ منها عضواً منه من النار، حتى فرجه بفرجه " رواه مسلم (٢٧٧٧) . وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح، وقال: " الصدقةُ تُطْفِئُ الخطيئة كما يُطْفِئُ الماءُ النارَ، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النارُ الحطبَ. "

والسبب الرابع الدافع للعقاب: دعاءُ المؤمنين للمؤمن، مثل صلاتهم على جنازته، فعن عائشة، وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من ميت يصلى عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شُفِعُوا فيه " رواه مسلم (١٥٧٦) ، وعن ابن عباس قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من رجلٍ مسلمٍ يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه " رواه مسلم (١٥٧٧) . وهذا دعاء له بعد الموت.

السبب الخامس: " ما يعمل للميت من أعمال البر، كالصدقةِ ونحوها، فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة، واتفاق الأئمة، وكذلك العتق والحج، بل قد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: " من مات وعليه صيام صام عنه وليه." رواه البخاري (٥٢١٠) ومسلم (٤٦٧٠)

السبب السادس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة، كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة، مثل قوله في الحديث الصحيح: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " صححه الألباني في صحيح أبي داوود (٣٩٦٥) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: " خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة ... " انظر صحيح الجامع (٣٣٣٥) .

السبب السابع: المصائب التي يُكَفِرُ الله بها الخطايا في الدنيا، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ما يُصيب المؤمن من وصبٍ ولا نصب ولا همٍ ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه " رواه البخاري (٥٢١٠) ومسلم (٤٦٧٠) .

السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة، والضغطة، والروعة (أي التخويف) ، فإن هذا مما يُكَفَرُ به الخطايا.

السبب التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها.

السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد." المرجع مجموع فتاوى ابن تيمية ج٧ ص " ٤٨٧- ٥٠١ ".

رابعاً: قولك " هل تظن أن الله سيغفر لي؟!! ... "

نعم، لو تبتي توبة صادقة، فإن الله وعد من تاب بالتوبة، والأدلة على ذلك قد تقدمت. فإياك أيتها الأخت أن تقنطي من رحمة الله، وتذكري قصة الرجل الذي قتل مئة شخص، ثم تاب فتاب الله عليه، وإليك القصة كما رواها الإمام مسلم في صحيحه في كتاب التوبة (٢٧٦٦) : " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، فَقَالَ: لا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَتْ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ".

فيستفاد من هذا الحديث فوائد منها:

١- أن الله يغفرالذنوب كلها عن التائب مهما بلغت، ويدل له قوله تعالى: (قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر/٥٣.

٢- أن على التائب أن يبتعد عن رفقة السوء الذين كانوا معه على المعصية، وعليه أن يصاحب رفقةً صالحة، تعينه على الخير، وتدله عليه.

٣- على المسلم أن يعيش في حياته بين الخوف والرجاء، فهو يخاف ذنوبه ويخشى منها، ولا يأمن مكر الله ولا يجزم لنفسه بدخول الجنة، فإن الصحابة رضوان الله عليهم رغم صلاحهم وتقواهم لم يكن هذا حالهم، بل كانوا يخافون ربهم ويعبدونه رغباً ورهباً، وخوفاً وطمعاً، فالمسلم إذاً يعمل الطاعات ويتوب ويطمع في رحمة الله ويعلم أن الله يغفر لمن تاب ويتوب عليه فيرجو أن يغفر الله له، ويعلم أن الله يتقبل من عبده العمل الصالح ويحب ذلك منه فيجتهد في عمل الصالحات راجياً القبول، فإذا عاش بهذه الحال: خائفاً من ذنوبه، راجياً رحمة ربه أصبح مجتهداً في الطاعة بعيداً عن المعصية يسأل الله أن يُثيبه على الصالحات حتى يلقاه وهو راضٍ عنه، ويستعيذ بالله من أن يقلب قلبه أو يغير حاله، كما كان يدعو عليه الصلاة والسلام: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ".

نسأل الله لنا ولك الثبات على دينه، والمزيد من فضله، إنه سميع مجيب.

[الْمَصْدَرُ]

الشيخ محمد صالح المنجد

<<  <  ج: ص:  >  >>