ما صحة الأثر الذي فيه (اختاروا لبناتكم كما تختارون لأبنائكم) ؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أحد أئمة المساجد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اختاروا لبناتكم كما تختارون لأبنائكم) وقد بحثت في جميع المراجع ولم أجد أثرا لهذا الحديث حسب ما طرحه الإمام، وأظن بأنه من أثر الصحابة رضوان الله عليهم، دلنا من فضلكم وجزاكم الله كل خير.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
البنت أمانة في عنق والدها، وقد أمره الله سبحانه وتعالى بحفظ هذه الأمانة ورعايتها، ولا شك أن اختيار الزوج الصالح لها من أعظم ما يحفظ به الولي ابنته، لأن الزواج نقلة في حياة الفرد نحو الطمأنينة والاستقرار والسعادة، فلا بد أن يكون الاختيار صالحا لتحقيق هذه الأماني.
والعاقل من الآباء هو الذي يسعى لتحقيق هذا المقصد العظيم لابنته، فلا يهدأ له بال حتى يجد لها صاحب الخلق والدين الذي يقوم على أمرها ويصلح شأنها، وإذا وجده فلا يتردد في عرض موليته عليه لأنه يرى في ذلك سعادتها وهناءها.
وفي القرآن والسنة نماذج سامية من الأولياء الذين اختاروا الأزواج لبناتهم وأخواتهم، وكانوا سببا في جلب السعادة إليهم، واختصار الزمن في الانتظار الذي لا تعلم له نهاية.
فقد قص الله سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام حين ورد ماء مدين، وسقى لامرأتين من ذلك الماء رحمة وشفقة بهما، فلما علم أبوهما بأمانة وقوة موسى عليه السلام – وذلك قبل أن يبعث بالرسالة – عرض عليه أن يزوجه إحدى ابنتيه، فقال سبحانه وتعالى حاكيا ذلك:
(َقالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) القصص/٢٧
وفي السنة نموذج آخر رواه الإمام البخاري رحمه الله برقم (٥١٢٢) ، وبوب عليه بقوله: باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير. كما رواه النسائي برقم (٣٢٤٨) وبوب عليه بقوله: باب عرض الرجل ابنته على من يرضى.
عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ:
(تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسٍ يَعْنِي ابْنَ حُذَافَةَ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ - فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ. فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِي ذَلِكَ. فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ فَلَقِيتُهُ فَقَالَ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا. قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ. فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا. فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ فَخَطَبَهَا إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ شَيْئًا إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُهَا، وَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ تَرَكَهَا نَكَحْتُهَا)
قال الحافظ ابن حجر في فوائد هذا الحديث "فتح الباري" (٩/٢٢٢) :
" وفيه عرض الإنسان ابنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه؛ لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه، وأنه لا استحياء في ذلك " انتهى.
والنماذج في التاريخ كثيرة، ومن أعجب ذلك ما يذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (٤/٢٣٣) من قصة تزويج سعيد بن المسيب ابنته على تلميذه كثير بن المطلب، جاء فيها:
كنت أجالس سعيد بن المسيب، ففقدني أياما، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا. فقلت: وتفعل؟ قال: نعم، ثم تحمد، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجني على درهمين - أو قال: ثلاثة - فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر فيمن أستدين.
فصليت المغرب، ورجعت إلى منزلي، وكنت وحدي صائما، فقدمت عشائي أفطر، وكان خبزا وزيتا، فإذا بابي يقرع، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد. ففكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيب، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت فإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فأتيك؟ قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، إنك كنت رجلا عزبا فتزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك. فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب، ورد الباب. فسقطت المرأة من الحياء، وبلغ أمي، فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثا، ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق زوج. اهـ
إذن فقد نشأت بيوت دين وعلم وأدب وسعادة على هذا السبيل، ولم يمنع الحياء أحدا أن يكسب زوجا صالحا لابنته أو أخته، فقد كان التواضع خلقهم، وكان الكرم والوفاء حليتهم.
ولعل فيما سبق من النماذج قدوة حسنة لأهل هذا الزمان، والله المستعان.
ثانيا:
أما الحديث الذي رواه ذلك الخطيب وجاء فيه: (اختاروا لبناتكم كما تختارون لأبنائكم) فهذا ليس بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أقف على نسبته لأحد من الصحابة أو التابعين، إنما هو مثل يتناقله الناس فيما بينهم من كلامهم وتجاربهم، ومَن نسبه إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخطأ خطأ فاحشا شنيعا، وتجاوز حدا عظيما في نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القائل: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) رواه البخاري (١١٠) ومسلم (٣)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب