دراسة المنطق
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا لا يدرس المنطق مع كتب أهل العلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
علم المنطق من العلوم التي أثارت جدلا واسعا بين العلماء عبر العصور السابقة، ما بين مؤيد له ومعارض، ولهذا الجدل أسباب موضوعية وأخرى تاريخية، فمن ذلك:
١- أن واضع هذا العلم هو أرسطو اليوناني قبل ولادة المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، ثم ترجم إلى العربية في عهد الدولة العباسية بحدود سنة (١٨٠هـ) ، فكانت نشأة هذا العلم، عند اليونان، في عهود الظلام سبب تشكك وتردد الكثير من المسلمين في أخذه والثقة به.
٢- اشتماله على شيء من الحق في طرائق الإثبات، وعلى كثير من الباطل في مبادئه وقواعده أيضا، وخاصة في جانب النفي، فكان الحق الذي فيه باعثا لبعض أهل العلم على قبول هذا العلم مع الدعوة إلى تصفيته، وباعثا لآخرين على إنكاره ورده جملة وتفصيلا.
٣- استعمال الفلاسفة المفرط لهذا العلم في كتبهم ومخاطباتهم، واختلاطه بعلومهم اختلاطا فاحشا حتى غدا ركنا من أركانهم، وهذا ما حدا بكثير من أهل العلم إلى رده وإنكاره وتحريم تعلمه.
والنظرة التاريخية المنصفة تدل على أن الاتجاه الغالب لدى علماء الإسلام، في أول الأمر، كان نحو نبذ هذا العلم بجميع ما فيه: فالحق الذي فيه مستقر في العقول السليمة، ولا حاجة إلى قواعد أرسطو لضبطها، والباطل يجب نفيه ورده.
حتى جاء أبو حامد الغزالي فكان أول من أدخل المنطق في علم أصول الفقه، وشرحه في مقدمة مطولة لكتاب " المستصفى في أصول الفقه "، وشكك في علوم من لم يتعلم هذا العلم، - وإن كان قد ذم المنطق في آخر كتبه - وبعده انتشر وذاع في الآفاق بين المتكلمين والأصوليين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" ما زال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمونه ويذمون أهله، وينهون عنه وعن أهله، حتى رأيت للمتأخرين فتيا فيها خطوط جماعة من أعيان زمانهم من أئمة الشافعية والحنفية وغيرهم، فيها كلام عظيم في تحريمه وعقوبة أهله، حتى إن من الحكايات المشهورة التي بلغتنا أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخذها منه أفضل من أخذ عكا. مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاما، وأمثلهم اعتقادا " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (٩/٨)
ويقول السيوطي رحمه الله:
" فن المنطق فن خبيث مذموم، يحرم الاشتغال به، مبني بعض ما فيه على القول بالهيولى الذي هو كفر يجر إلى الفلسفة والزندقة، وليس له ثمرة دينية أصلا بل ولا دنيوية، نص على مجموع ما ذكرته أئمة الدين وعلماء الشريعة:
فأول من نص على ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه، ونص عليه من أصحابه إمام الحرمين، والغزالي في آخر أمره، وابن الصباغ صاحب " الشامل "، وابن القشيري، ونصر المقدسي، والعماد بن يونس، وحفده، والسِّلَفي، وابن بندار، وابن عساكر، وابن الأثير، وابن الصلاح، وابن عبد السلام، وأبو شامة، والنووي، وابن دقيق العيد، والبرهان الجعبري، وأبو حيان، والشرف الدمياطي، والذهبي، والطيبي، والملوى، والأسنوي، والأذرعي، والولي العراقي، والشرف بن المقري، وأفتى به شيخنا قاضي القضاة شرف الدين المناوي، ونص عليه من أئمة المالكية ابن أبي زيد صاحب " الرسالة "، والقاضي أبو بكر بن العربي، وأبو بكر الطرطوشي، وأبو الوليد الباجي، وأبو طالب المكي صاحب قوت القلوب، وأبو الحسن بن الحصار، وأبو عامر بن الربيع، وأبو الحسن بن حبيب، وأبو حبيب المالقي، وابن المنير، وابن رشد، وابن أبي جمرة، وعامة أهل المغرب، ونص عليه من أئمة الحنفية أبو سعيد السيرافي، والسراج القزويني، وألف في ذمه كتابا سماه "نصيحة المسلم المشفق لمن ابتلى بحب علم المنطق"، ونص عليه من أئمة الحنابلة ابن الجوزي، وسعد الدين الحارثي، والتقي ابن تيمية، وألف في ذمه ونقضِ قواعده مجلدا كبيرا سماه " نصيحة ذوي الإيمان في الرد على منطق اليونان " وقد اختصرته في نحو ثلث حجمه وألفت في ذم المنطق مجلدا سقت فيه نصوص الأئمة في ذلك.
وقول هذا الجاهل – كما جاء في السؤال الموجه إليه -: " إن المنطق فرض عين على كل مسلم "
يقال له: إن علم التفسير والحديث والفقه التي هي أشرف العلوم ليست فرض عين بالإجماع، بل هي فرض كفاية، فكيف يزيد المنطق عليها؟!
فقائل هذا الكلام إما كافر أو مبتدع أو معتوه لا يعقل.
وقوله: " إن توحيد الله متوقف على معرفته ": من أكذب الكذب، وأبلغ الافتراء، ويلزم عليه تكفير غالب المسلمين المقطوع بإسلامهم.
ولو قدر أن المنطق في نفسه حق لا ضرر فيه لم ينفع في التوحيد أصلا، ولا يظن أنه ينفع فيه إلا من هو جاهل بالمنطق لا يعرفه؛ لأن المنطق إنما براهينه على الكليات، والكليات لا وجود لها في الخارج، ولا تدل على جزء أصلا.
هكذا قرره المحققون العارفون بالمنطق " انتهى باختصار.
"الحاوي للفتاوي" (١/٢٥٥-٢٥٦)
ولكن ذلك كله لا يمنع أن يدرس طالب العلم المتخصص قواعد المنطق من كتب أهله، كي يطلع على طرائق هذا العلم ويتعرف إلى مناهج أهله، فيكون على بصيرة من اصطلاحات القوم وأساليبهم، فلا يقع في مغالطات بعضهم، وينتبه إلى ما عندهم من الحق فيعرضه بطريقته المعتدلة، فيجمع بين العلوم النافعة، وينتبه إلى العلوم الضارة، ويستعين على ذلك بالله تعالى أولا، ثم بأهل العلم الراسخين الذين مارسوا هذا العلم وخبروا ما فيه من حق وباطل، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة محمد الأمين الشنقيطي، حيث ألف الأخير كتابا في قواعد هذا العلم، صفاه من الدخل والغلط الذي راج على الكثيرين.
يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:
" ولما كان من المتوقع أن يواجه الدعاة إلى الحق دعاةً إلى الباطل مضللين، يجادلون لشبه فلسفية، ومقدمات سوفسطائية، وكانوا لشدة تمرنهم على تلك الحجج الباطلة كثيرا ما يظهرون الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، ويفحمون كثيرا من طلبة العلم الذين لم يكن معهم سلاح من العلم يدفع باطلهم بالحق، وكان من الواجب على المسلمين أن يتعلموا من العلم ما يتسنى لهم به إبطال الباطل وإحقاق الحق على الطرق المتعارفة عند عامة الناس، حمل ذلك الجامعة – يعني الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة – على إنشاء كلية الدعوة وأصول الدين، ومهمتها تخريج دعاة قادرين على تبليغ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وعلى إقحام وإلزام الدعاة المضللين ببيان ما يصحح أدلتهم ويظهر بطلان حجج خصومهم.
ومن أجل ذلك قررت في منهج هذه الكلية تدريس مادة (آداب البحث والمناظرة) لأنه هو العلم الذي يقدر به من تعلمه على بيان مواضع الغلط في حجة خصمه، وعلى تصحيح مذهبه بإقامة الدليل المقنع على صحته أو صحة ملزومه أو بطلان نقيضه ونحو ذلك.
ومن المعلوم أن المقدمات التي تتركب منها الأدلة التي يحتج بها كل واحد من المتناظرين إنما توجه الحجة بها منتظمة على صورة القياس المنطقي.
ومن أجل ذلك كان فن آداب البحث والمناظرة يتوقف فهمه - كما ينبغي - على فهم ما لا بد منه من فن المنطق؛ لأن توجيه السائل المنع على المقدمة الصغرى أو الكبرى مثلا، أو القدح في الدليل بعدم تكرار الحد الوسط، أو باختلال شرط من شروط الإنتاج ونحو ذلك لا يفهمه من لا إلمام له بفن المنطق.
وكانت الجامعة قد أسندت إلينا تدريس فن آداب البحث والمناظرة، وكان لا بد من وضع مذكرة تمكن طلاب الفن من مقصودهم، فوضعنا هذه المذكرة، وبدأناها بإيضاح القواعد التي لا بد منها من فن المنطق لآداب البحث والمناظرة، واقتصرنا فيها على المهم الذي لا بد منه للمناظرة، وجئنا بتلك الأصول المنطقية خالصة من شوائب الشبه الفلسفية، فيها النفع الذي لا يخالطه ضرر ألبتة؛ لأنها من الذي خلصه علماء الإسلام من شوائب الفلسفة، كما قال العلامة شيخ مشايخنا، وابن عمنا، المختار بن بونة، شارح الألفية، والجامع معها ألفية أخرى من نظمة تكميلا للفائدة، في نظمه في فن المنطق:
فإن تَقُل حَرّمَه النواوي ... وابن الصلاح والسيوطي الراوي
قلنا: ترى الأقوال ذي المخالِفة ... محلُّها ما صنفَ الفلاسفة
أما الذي خَلَّصَه مَن أسلما ... لا بد أن يُعلَمَ عند العلما
وأما قول الأخضري في سلمه:
فابن الصلاح والنواوي حرَّما ... وقال قوم ينبغي أن يُعلَما
والقولة المشهورة الصحيحة ... جوازُه لكامل القريحة
ممارسُ السنةِ والكتابِ ... ليهتدي به إلى الصواب
فمحله المنطق المشوب بكلام الفلاسفة الباطل.
ومن المعلوم أنَّ فنَّ المنطق منذ ترجم من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية في أيام المأمون كانت جميع المؤلفات توجد فيها عبارات واصطلاحات منطقية لا يفهمها إلا مَن له إلمامٌ به، ولا يفهم الرد على المنطقيين في ما جاؤوا به من الباطل إلا مَن له إلمام بفن المنطق.
وقد يعين على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية، فزعموا أن العقل يمنع بسببها كثيرا من صفات الله الثابتة في الكتاب والسنة؛ لأن أكبر سبب لإفحام المبطِل أن تكون الحجة عليه من جنس ما يحتج به، وأن تكون مركبة مِن مقدمات على الهيئة التي يعترف الخصم المبطل بصحة إنتاجها.
ولا شك أن المنطق لو لم يترجم إلى العربية، ولم يتعلمه المسلمون لكان دينهم وعقيدتهم في غنى عنه، كما استغنى عنه سلفهم الصالح، ولكنه لما ترجم وتعلم وصارت أقيسته هي الطريق الوحيدة لنفي صفات الله الثابتة في الوحيين، كان ينبغي لعلماء المسلمين أن يتعلموه وينظروا فيه ليردوا حجج المبطلين بجنس ما استدلوا به على نفيهم لبعض الصفات؛ لأن إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم وإلزامهم الحق.
واعلم أن نفس القياس المنطقي في حد ذاته صحيح النتائج إن ركبت مقدماته على الوجه الصحيح صورة ومادة، ومع شروط إنتاجه، فهو قطعي الصحة، وإنما يعتريه الخلل من جهة الناظر فيه فيغلط، فيظن هذا الأمر لازما لهذا مثلا، فيستدل بنفي ذلك اللازم في زعمه على نفي ذلك الملزوم، مع أنه لا ملازمة بينهما في نفس الأمر ألبتة " انتهى.
"آداب البحث والمناظرة" (ص/٣-٥)
وانظر جواب السؤال رقم: (٨٨١٨٤)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب