التورق المصرفي واختلاف الفتوى فيه بين المجامع الفقهية وعلماء البنوك
[السُّؤَالُ]
ـ[القرض بالتورق وجدت أنه مجاز من كبار العلماء في البنوك، ولكن قرأت في موقعكم أن شروط التورق التي يطرحها البنك من البداية جعلته حراماً، وأنا في حيرة، ما فهمته من إجابات بعض الأسئلة على موقعكم أنه لا يجوز أن أوكِّل البنك في بيع السلعة التي قمت بشرائها، أو أنه لا يجوز أن أبيع السلعة للبنك نفسه، وهذا النظام هو المتبع لدى البنوك، والمجاز من كبار العلماء، فكيف أفهم الصحيح؟ لأنني قرأت الإجازة في البنك، وبناء عليه أخذت قرضاً، مضطراً لسداد ديون عليَّ، ولظروف قاسية اضطررت للاستدانة، وأنا راتبي لا يكفيني وأولادي، ومساعدة أبي وإخوتي، وكنت لا أملك شقة في مصر، اضطررت للاستدانة لسداد الدين والتوسيع على أولادي، حاولت ألا أقع في الشبهات؛ لأني سمعت أكثر من رأي في هذا الموضوع، ولما وجدته مجازاً من كبار العلماء هنا أقدمت عليه، إذا كان ما فعلتُه حراماً: كيف السبيل؟ وقد سددت الديون وعليَّ الآن أقساط القرض بالفائدة، جزاكم الله خيراً، وادعوا لي بالخلاص من هذا الهم الذي يؤرقني ليل نهار، إنني أشعر بالذنب، مع العلم أنني استخرت الله قبل الإقدام على هذا، وعرض عليَّ البنك بعد فترة منحي بطاقة ائتمان دون مصاريف سنوية، وعلمت أنني لو سددت المبلغ المستحق قبل الموعد لا يأخذ مني فائدة، بصِّروني، جزاكم الله خيراً، وكيف أكفِّر عما فعلت، وكيف التوبة، وأنا لا أستطيع سداد كل القرض مرة واحدة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
التورق منه ما هو جائز، ومنه ما هو محرَّم، أما الجائز فهو شراء السلعة من تاجر بالأقساط وبيعها نقداً لغيره، وقد بيَّنا جواز هذا النوع من التورق بشروطه في جوابي السؤالين: (٤٥٠٤٢) و (٣٦٤١٠) .
وأما المحرَّم فله صورتان:
الأولى: أن تشتري سلعة بأقساط، وتبيعها على من اشتريتها منه نفسه، وهو ما يسمَّى " بيع العِينة " وسميت بالعينة لأن عين السلعة التي باعها رجعت إليه بعينها، وهو محرم، لأنه حيلة اتخذت للتوصل بها إلى القرض بزيادة ربوية، فصارت بذلك محرمة عند جماهير العلماء.
والثانية: " تورق البنوك " أو " التورق المنظم "، وصورته: أن تشتري من البنك بضاعة بالأقساط - وفي الغالب تكون مرابحة، ثم توكِّل البنك في بيعها نقداً، وهذه المعاملة – أيضاً - محرمة.
وقد صدر قرارٌ من " المجمعِ الفقهي الإسلامي " المنعقد في المدة من ١٩ - ٢٣ / ١٠ / ١٤٢٤ هـ الذي يوافقه ١٣ - ١٧ / ١٢ / ٢٠٠٣ م فيه تحريم هذه المعاملة، وفيه تحذيرٌ وتنبيهٌ للمصارفِ من استغلالِ هذه المعاملةِ على غيرِ وجهها الشرعي، وفيه:
" بعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع، والمناقشات التي دارت حوله، تبيَّن للمجلس أن التورق الذي تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر هو:
قيام المصرف بعمل نمطي يتم فيه ترتيب بيع سلعة (ليست من الذهب أو الفضة) من أسواق السلع العالمية أو غيرها، على المستورق بثمن آجل، على أن يلتزم المصرف - إما بشرط في العقد أو بحكم العرف والعادة - بأن ينوب عنه في بيعها على مشتر آخر بثمن حاضر، وتسليم ثمنها للمستورق.
وبعد النظر والدراسة، قرر مجلس المجمع ما يلي:
أولاً: عدم جواز التورق الذي سبق توصيفه في التمهيد للأمور الآتية:
١. أن التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعاً، سواء أكان الالتزام مشروطاً صراحة، أم بحكم العرف والعادة المتبعة.
٢. أن هذه المعاملة تؤدي في كثير من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة.
٣. أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة من البنك للمستورق، وعملية البيع والشراء تكون صورية في معظم أحوالها.
وهذه المعاملة غير التورق الحقيقي المعروف عند الفقهاء، وقد سبق لـ " المجمع " في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملات حقيقية وشروط محددة بينها قراره؛ وذلك لما بينهما من فروق عديدة فصلت القول فيها البحوث المقدمة.
التورق الحقيقي يقوم على شراء حقيقي لسلعة بثمن آجل، تدخل في ملك المشتري، ويقبضها قبضاً حقيقيّاً، وتقع في ضمانه، ثم يقوم ببيعها هو بثمن حالٍّ لحاجته إليه، قد يتمكن من الحصول عليه، وقد لا يتمكن، والفرق بين الثمنين الآجل والحال لا يدخل في ملك المصرف الذي طرأ على المعاملة لغرض تبرير الحصول على زيادة لما قدم من تمويل لهذا الشخص بمعاملات صورية في معظم أحوالها، وهذا لا يتوافر في المعاملة المبينة التي تجريها بعض المصارف.
ثانياً: يوصي " مجلس المجمع " جميع المصارف بتجنب المعاملات المحرمة، امتثالاً لأمر الله تعالى.
كما أن المجلس إذ يقدر جهود المصارف الإسلامية في إنقاذ الأمة الإسلامية من بلوى الربا: فإنه يوصي بأن تستخدم لذلك المعاملات الحقيقية المشروعة دون اللجوء إلى معاملات صورية تؤول إلى كونها تمويلاً محضاً بزيادة ترجع إلى الممول " انتهى بتصرف يسير.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم العثمان – وفقه الله -:
مسببات القول بعدم جواز التورق المصرفي المنظم:
١. الربا.
٢. (وهو في معنى ما قبله) أن المستورق لا يقصد السلعة، وإنما يقصد النقد، والبيع الحاصل بيع صوري، فتؤول المسألة إلى نقود حالَّة بنقود مؤجلة أكثر منها.
ومما يدل على صورية البيع:
أن البنك لا يقبض السلع الدولية قبضاً حقيقيّاً، ولا يقبض الإيصالات الأصلية للمخازن التي تودع فيها هذه السلع، وهي التي تتداول في البورصة، وتنتقل من يد إلى يد تنتهي إلى مستهلك يستطيع أن يتسلم بها ما اشتراه.
والشأن في المستورق أشد؛ فهو لا يقبض السلعة قبضاً حقيقيّاً ولا حكميّاً، ومن ثم فهو يبيع ما لم يقبض، بل ما لم يُعيَّن؛ لأن ما يبيعه البنك على العميل جزء مما تملكه البنك مما هو محدد برقم الصنف، وهذا الرقم لا يكون للأجزاء الصغيرة، ولكنه رقم للوحدة الكبيرة التي يجزؤها البنك على المتورقين.
٣. أن التوكيل للبنك في التورق المنظم ينافي مقتضى عقد الوكالة؛ لأن ما يعمله البنك باعتباره وكيلاً ينافي مصلحة المستورق، فهو يبيع السلعة بثمن أقل من الثمن الذي اشترى به المستورق (والعقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشُرط فيه ما ينافي ذلك المقصود: فقد جمع بين المتناقضين؛ بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء، ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق) ، وانضمام الوكالة إلى التورق شرط وإن لم يصرح به؛ فإنه لولا هذه الوكالة لما قبل المستورق بالشراء من البنك ابتداء.
٤. ضمان المشتري النهائي: فيتفق البنك مع طرف مستقل يلتزم بشراء السلع التي يتوسط فيها، وهذا الالتزام ضمان للسعر المباع ألا يتجاوز حدوداً معينة؛ حماية من تقلب الأسعار، ويقابل هذا الضمان التزام البنك بالبيع عليه، بمعنى أنه لا يحق للبنك أن يبيع السلع في السوق حتى ولو ارتفع سعرها المتفق عليه مع المشتري الثاني، وبذلك يكون هذا الضمان من الطرفين: من البنك بالبيع على المشتري الثاني، ومن المشتري بالشراء بالثمن المحدد.
٥. مخالفة التورق المنظم للتورق الذي أجازه جمهور الفقهاء، وهذه المخالفة من وجوه منها:
أ. أن البنك يتولى بيع السلعة التي اشتريت منه لمن يشاء، في حين أن المستورق هو الذي يتولى البيع في التورق الفردي، وليس للبائع الأول علاقة ببيع السلعة ولا بالمشتري النهائي.
ب. وجود اتفاق سابق بين البنك والمشتري النهائي يتضمن شراء ما يعرضه البنك من سلع بالثمن الذي اشتراها به المصرف كما تقدم، أما في التورق الفردي فالمستورق هو الذي يبيع سلعته بمثل الثمن الذي اشتراها به أو أقل أو أكثر.
٦. أن التورق المنظم يدخل في بيع العينة المحرم؛ لأن البنك هو مصدر السيولة للمستورق في الحالتين، فالنقد يحصل عن طريقه وبواسطته، ولولا علم المشتري بأن البنك سيوفر له النقد الحاضر لاحقاً لما أقبل على هذا العمل ابتداء.
٧. أن التورق المصرفي المنظم لا يدخل في بيع العينة الذي أجازه الشافعي؛ لأنه يشترط ألا يكون هناك ارتباط بين البيعتين، وألا تظهر نية الحصول على النقد، وكلا الشرطين غير متحقق هنا.
٨. قضاؤه على أهداف البنوك الإسلامية من وجوه:
أ. محاكاتها للبنوك الربوية في تقديم التمويل، ومنح الائتمان.
ب. الاكتفاء به عن صيغ الاستثمار الأخرى، وقد تجاوزت نسبة التورق ٦٠% من أعمال التمويل في البنك.
ج. الالتباس بين البنك الإسلامي والربوي.
د. إهدار الجهود المبذولة لتوجيه البنوك الإسلامية إلى تمويل في صورة استثمار عن طريق المشاركة والمضاربة والسَّلَم ونحوها.
٩. تهجير أموال المسلمين؛ لأن تجارة التورق المنظم تكون في السوق الدولية، فتُهجر بها أموال المسلمين ليستفيد منها غيرهم.
" موقع المسلم " باختصار.
ثانياً:
وأما قول السائل بأنه قد أباح هذا البيع كبار العلماء: فليس صحيحاً، فالذين أباحوه هم اللجان الشرعية في البنوك الإسلامية، أو الفروع الإسلامية في البنوك الربوية! مع التنبيه أنه ليس كلهم أجاز هذه المعاملة.
وقد ردَّ كثيرون على القول بالإباحة من تلك اللجان الشرعية، وفي قرار " مجلس المجمع الفقهي " التنصيص على هذه المصارف بعنوان القرار ونصه وخاتمته، وللشيخ خالد المشيقح بحث موسع في تحريم هذه المعاملة، فلينظر في " مجلة البحوث الإسلامية " (٧٣ / ٢٣٤ - ٢٣٧) ، ويوجد ردود من الدكتور على السالوس، والدكتور سامي سويلم، والدكتور عبد الله بن حسن السعيدي – وكلاهما قدَّم بحثاً في المسألة لمجلس المجمع الفقهي -، والشيخ عبد الرحمن العثمان، والدكتور محمد بن عبد الله الشباني، انظرها في موقع " المسلم ".
وانظر جواب السؤال رقم: (٦٠١٨٥) .
وأما ما يتعلق بك أنت أخي السائل، فما دمت قد وثقت في تلك اللجان، وأخذت برأيهم، وأنت لا تدري أن قولهم ضعيف، فنرجو أن لا يكون عليك حرج، مع العزم على عدم العود إلى ذلك مستقبلاً.
ونسأل الله تعالى أن يوفقك إلى كل خير ويعينك على سداد ما عليك من ديون.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب