للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تفسير قوله تعالى الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار

[السُّؤَالُ]

ـ[الآية رقم: (١٦) من سورة آل عمران، والآية التي تليها: (الذين يقولون ربنا إننا ءامنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار) . أريد منكم أعزكم الله تفسير الآيتين، وتفسير الآية (١٥) التي بدايتها (قل أؤنبئكم) وربط المعنى العام، وهل الصبر يليه في المنزلة الصدق، ثم القنوت، ثم الإنفاق في سبيل الله، ثم الاستغفار، أم ماذا؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً: تفسير السياق.

هذه الآيات جاءت في سياق المقارنة بين شهوات الدنيا ونعيم الآخرة، فبعد أن ذكر الله عز وجل متاع الدنيا وما زين للناس فيها من ملذات، شرع في ذكر نعيم الآخرة، وأنه هو النعيم الحقيقي، والسعادة الأبدية، وقد بدأ الله عز وجل هذا السياق بصيغة الاستفهام التشويقي، فقال سبحانه وتعالى: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ. الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) آل عمران/١٥-١٧.

فمتاع الآخرة خالٍ من كل أذى وكدر، فإذا كان في الدنيا نساء وبنين، ففي الآخرة أزواج مطهرة من كل ما ينفر من نساء الدنيا، وفي هذا الوصف ارتفاع حقيقي على شهوات الأرض وملذاتها.

وأعظم من ذلك كله (رضوان من الله) يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى، فهو أعظم نعيم يتنعم به أهل الجنة، أن يحل عليهم رضوان الله وحبه ولطفه فلا يشقون بعده أبدا.

ثم شرع سبحانه في بيان حقيقة العباد الذي يستحقون هذا النعيم الكبير، وهو سبحانه بصير بهم جميعا، فقال سبحانه: (الذين يقولون ربنا إننا آمنا، فاغفر لنا ذنوبنا، وقنا عذاب النار)

وقولهم هذا ليس مقصودا لذاته، وإنما المقصود ذلك الإيمان والإقبال على الله تعالى، الذي يحيل حياة المؤمنين إلى تعلق تام بالله عز وجل، وذل وانكسار بين يديه سبحانه، حتى تغدو مغفرة الذنوب، والوقاية من النار أغلى أماني هؤلاء العباد المؤمنين.

يقول ابن القيم رحمه الله: " أخبر سبحانه أن ذلك كله متاع الحياة الدنيا، ثم شوَّق عباده الى متاع الآخرة، وأعلمهم أنه خير من هذا المتاع وأبقى فقال: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) .

ثم ذكر سبحانه من يستحق هذا المتاع ومن هم أهله الذين هم أولى به فقال: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) ، فأخبر سبحانه أن ما أعد لأوليائه المتقين من متاع الآخرة خير من متاع الدنيا، وهو نوعان: ثواب يتمتعون به، وأكبر منه وهو رضوانه عليهم، قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً) ، فأخبر سبحانه عن حقيقة الدنيا بما جعله مشاهَدا لأولي البصائر، وأنها لعب ولهو تلهو بها النفوس وتلعب بها الأبدان، واللعب واللهو لا حقيقة لهما، وأنهما مشغلة للنفس، مضيعة للوقت، يُقطع بها الجاهلون، فيذهب ضائعا في غير شيء " انتهى. "عدة الصابرين" (ص/١٦٨) .

ثانيا: تفسير المفردات.

ذكر سبحانه وتعالى أوصاف عباده المتقين الذين أعد لهم في الجنة من النعيم ما لا يقارن بنعيم الدنيا، وذكر هذه الأوصاف ترغيبا في التحلي بها، والمحافظة على مضامينها.

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " يصف تعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل، فقال تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا) أي: بك، وبكتابك، وبرسولك.

(فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) أي: بإيماننا بك وبما شرعته لنا، فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا من أمرنا بفضلك ورحمتك. (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)

ثم قال: (الصَّابِرِين) أي: في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات.

(وَالصَّادِقِينَ) فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة.

(وَالقَانِتِينَ) والقنوت: الطاعة والخضوع.

(والْمُنفِقِينَ) أي: من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات، وصلة الأرحام والقرابات، وسد الخَلّات، ومواساة ذوي الحاجات.

(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ) دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار، وقد قيل: إن يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) يوسف/٩٨، أنه أخرهم إلى وقت السحر، وثبت في الصحيحين وغيرهما من المساند والسنن من غير وجه، عن جماعة من الصحابة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى سمَِاءِ الدُّنيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِر. فيقولُ: هَلْ مِنْ سَائل فأعْطِيَه؟ هَلْ مِنْ دَاع فَأسْتجيبَ له؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر فأغْفِرَ لَهُ) الحديث " انتهى.

ثالثا: البلاغة والبيان.

ونبين هنا بعض الأمور البلاغية والبيانية في قوله سبحانه: (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار) ، على طريقة السؤال والجواب، مسترشدين بكلام أهل العلم المفسرين.

١- لماذا ذكر الله تعالى هذه الأوصاف دون غيرها من أوصاف المؤمنين؟

يبين بعض المفسرين أن هذه الأوصاف الخمسة هي التي تجمع وتشمل جميع مقامات العبودية والمعاملة مع الله تعالى.

يقول الإمام البيضاوي رحمه الله: " (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار) : حصرٌ لمقامات السالك على أحسن ترتيب.

فإن معاملته مع الله تعالى: إما توسل، وإما طلب.

والتوسل: إما بالنفس: وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل، والصبر يشملهما. وإما بالبدن: وهو إما قولي: وهو الصدق.

وإما فعلي: وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة.

وإما بالمال: وهو الإِنفاق في سبل الخير.

وأما الطلب: فبالاستغفار؛ لأن المغفرة أعظم المطالب، بل الجامع لها.

"تفسير البيضاوي" (٢/١٦)

ويقول العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله: " ذكر هنا أصول فضائل صفات المتدينين، وهي:

الصبر: الذي هو ملاك فعل الطاعات وترك المعاصي.

والصدق: الذي هو ملاك الاستقامة وبث الثقة بين أفراد الأمة.

والقنوت: وهو ملازمة العبادات في أوقاتها، وإتقانها، وهو عبادة نفسية جسدية.

والإنفاق: وهو أصل إقامة أَوَد الأمة بكفاية حاجة المحتاجين، وهو قربة مالية، والمال شقيق النفس.

وزاد الاستغفار بالأسحار: وهو الدعاء والصلاة المشتملة عليه في أواخر الليل، والسحر سدس الليل الأخير؛ لأن العبادة فيه أشد إخلاصا، لما في ذلك الوقت من هدوء النفوس، ولدلالته على اهتمام صاحبه بأمر آخرته، فاختار له هؤلاء الصادقون آخر الليل لأنه وقت صفاء السرائر، والتجرد عن الشواغل " انتهى. "التحرير والتنوير" (٣/٤٣) .

٢- لماذا جاءت هذه الأوصاف بالترتيب المذكور، هل لذلك سبب معين، وهل يدل ذلك على تفاضل هذه المقامات، أم أنها مقامات متساوية؟

قد يبدو للمتأمل أن هذا الترتيب جاء بسبب تفاضل المقامات المذكورة:

فالصبر يقتضي حبس النفس على الطاعات وترك المعاصي، ولكن حبس النفس لا يؤجر عليه المرء إلا إذا كان صادقا مخلصا لله تعالى، فبدأ بـ " الصابرين " ثم: " والصادقين ".

ثم قد ينقطع العبد عن صبره وصدقه، فيكسل عن العبادة، ويتأخر عن الترقي في مراتبها، فجاء وصف القنوت، وهو الدوام على العبادة والاستقامة، فقال سبحانه: " والقانتين ثم سمى سبحانه وتعالى بعض الطاعات التي أوجبت لهم أوصاف التقوى والصبر والمرتبة العالية: فذكر عز وجل: (المنفقين والمستغفرين بالأسحار) .

يقول الفخر الرازي رحمه الله: " اعلم أن لله تعالى على عباده أنواعاً من التكليف، والصابر هو من يصبر على أداء جميع أنواعها.

وكمال هذه المرتبة أنه إذا التزم طاعة أن يصدق نفسه في التزامه، وذلك بأن يأتي بذلك للملتزم من غير خلل ألبتة، ولما كانت هذه المرتبة متأخرة عن الأولى، لا جرم ذكر سبحانه الصابرين أولاً، ثم قال: (الصادقين) ثانياً.

ثم إنه تعالى ندب إلى المواظبة على هذين النوعين من الطاعة، فقال: (والقانتين) .

فهذه الألفاظ الثلاثة للترغيب في المواظبة على جميع أنواع الطاعات.

ثم بعد ذلك ذكر الطاعات المعينة، وكان أعظم الطاعات قدراً أمران:

أحدهما: الخدمة بالمال، فذكر هنا بقوله: (والمنفقين) .

والثاني: الخدمة بالنفس، فذكره هنا بقوله: (والمستغفرين بالأسحار) .

فإن قيل: فلم قدم ههنا ذكر المنفقين على ذكر المستغفرين؟

قلنا: لأن هذه الآية في شرح عروج العبد من الأدنى إلى الأشرف، فلا جرم وقع الختم بذكر المستغفرين بالأسحار " انتهى باختصار. "مفاتيح الغيب" (٧/١٧٦-١٧٧) .

هذا وقد ذكر المفسرون كلاما دقيقا في سر العطف بالواو بين هذه الأوصاف، لا نحب أن نطيل به على القارئ الكريم، فمن أحب الاستزادة منه فليرجع إلى التفاسير السابق ذكرها في هذا الجواب.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>