للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الخوف من التقصير يجعله يتردد من محبة لقاء الله

[السُّؤَالُ]

ـ[أعرف أن الناس الحكماء هم الذين يذكرون أنفسهم دائما بالموت، وأحب لقاء ربي، ولكن خوفي من تقصيري في ترك الواجبات يجعلني في تردد من حب هذا اللقاء، فأرجو منكم نصيحتي في هذا الشأن.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

نصيحتنا لك في هذا الشأن أن تفرق بين خوفين:

١- الخوف من الله الذي يؤدي إلى تقوى الله في جميع الأعمال، بالحرص على الطاعات، واجتناب المحرمات، والإكثار من نوافل العبادات، والإحسان إلى الخلق: فهذا خوف محمود مأجور عليه بإذن الله.

٢- الخوف من لقاء الله يأساً من رحمته، وفرقا من عذابه، من غير أن يكون لذلك أثر ظاهر في أخلاقك وأعمالك: فهذا خوف مذموم، لا تنتفع به، بل هو من وسواس الشيطان الذي يقنط عباد الله من رحمته.

فتأمل أخي الكريم في أي الخوفين من الله أنت؟

ورغم أن المسلم مأمور بدوام خشية الله والخوف من عذابه، إلا أنه مأمور أيضا أن يبقي في قلبه فسحة كبيرة من الأمل بالله، ورجاء عفوه وإحسانه، رجاء يدفع إلى الطمع برحمة الله ولا يدفع إلى الكسل عن العمل الصالح أو الوقوع في المحرمات، وهذه أحوال دقيقة يجب على كل مسلم أن يتعلمها ويعامل الله بها.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ: (لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) رواه مسلم (٢٨٧٧) .

والله تعالى وسعت رحمته كل شيء وهو أرحم بنا من أمهاتنا وأبائنا، ولهذا قال الإمام سفيان الثوري رحمه الله:

" ما أحب أن حسابي جعل إلى والدي؛ فربي خير لي من والدي " انتهى.

وقال النووي رحمه الله:

" قال العلماء: معنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه، قالوا: وفى حالة الصحة يكون خائفاً راجياً ويكونان سواء، وقيل: يكون الخوف أرجح، فإذا دنت أمارات الموت غلَّب الرجاء أو محَّضه؛ لأن مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال، فاستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله تعالى والإذعان له، ويؤيده الحديث المذكور بعده: (يبعث كل عبد على ما مات عليه) ، ولهذا عقبه مسلم للحديث الأول، قال العلماء معناه: يبعث على الحالة التي مات عليها، ومثله الحديث الآخر بعده: (ثم بعثوا على نياتهم) " انتهى.

"شرح مسلم" (١٧/٢١٠) .

وقد عقد الإمام البخاري في صحيحه بابا بعنوان " باب الرجاء مع الخوف "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه:

" قوله: " باب الرجاء مع الخوف " أي: استحباب ذلك، فلا يقطع النظر في الرجاء عن الخوف، ولا في الخوف عن الرجاء، لئلا يفضي في الأول إلى المكر، وفي الثاني إلى القنوط، وكل منهما مذموم.

والمقصود من الرجاء أنَّ مَن وقع منه تقصير فليحسن ظنه بالله، ويرجو أن يمحو عنه ذنبه، وكذا من وقع منه طاعة يرجو قبولها، وأما من انهمك على المعصية راجيا عدم المؤاخذة بغير ندم ولا إقلاع فهذا غرور، وما أحسن قول أبي عثمان الجيزي: من علامة السعادة أن تطيع وتخاف أن لا تقبل. ومن علامة الشقاء: أن تعصي وترجو أن تنجو.

وقد أخرج ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن أبيه عن عائشة قلت:

(يا رسول الله! (الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) أهو الذي يسرق ويزني؟ قال: لا، ولكنه الذي يصوم ويتصدق ويصلي ويخاف أن لا يقبله منه) .

وهذا كله متفق على استحبابه في حالة الصحة، وقيل: الأولى أن يكون الخوف في الصحة أكثر وفي المرض عكسه، وأما عند الإشراف على الموت فاستحب قوم الاقتصار على الرجاء لما يتضمن من الافتقار إلى الله تعالى، ولأن المحذور من ترك الوف قد تعذر، فيتعين حسن الظن بالله برجاء عفوه ومغفرته، ويؤيده حديث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله) .

وقال آخرون: لا يهمل جانب الخوف أصلا بحيث يجزم بأنه آمن.

ويؤيده ما أخرج الترمذي عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال له: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف) .

ولعل البخاري أشار إليه في الترجمة، ولما لم يوافق شرطه أورد ما يؤخذ منه، وإن لم يكن مساويا له في التصريح بالمقصود " انتهى.

"فتح الباري" (١١/٣٠١) .

ويقول ابن القيم رحمه الله:

" وقد تبين الفرق بين حسن الظن والغرور، وأن حسن الظن إن حمل على العمل وحث عليه وساعده وساق إليه فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور، وحسن الظن هو الرجاء، فمن كان رجاؤه جاذبا له على الطاعة زاجرا له عن المعصية فهو رجاء صحيح، ومن كانت بطالته رجاء، ورجاؤه بطالة وتفريطا فهو المغرور " انتهى.

"الجواب الكافي" (ص/٢٤) .

وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:

هل يجب على المؤمن عدم الخوف من الموت؟ وإذا حدث هذا فهل معناه عدم الرغبة في لقاء الله؟ .

فأجاب:

" يجب على المؤمن والمؤمنة أن يخافا الله سبحانه ويرجواه؛ لأن الله سبحانه قال في كتابه العظيم: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) آل عمران/١٧٥، وقال عز وجل: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) المائدة/٤٤، وقال سبحانه: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) البقرة/٤٠، وقال عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ) البقرة/٢١٨، وقال عز وجل: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف/١١٠، في آيات كثيرة.

ولا يجوز للمؤمن ولا للمؤمنة اليأس من رحمة الله، ولا الأمن من مكره، قال الله سبحانه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر/٥٣، وقال تعالى: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) يوسف/٨٧، وقال عز وجل: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) الأعراف/٩٩.

ويجب على جميع المسلمين من الذكور والإناث الإعداد للموت، والحذر من الغفلة عنه؛ للآيات السابقات، ولما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) - الموت -؛ ولأن الغفلة عنه وعدم الإعداد له من أسباب سوء الخاتمة، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقلت: يا نبي الله: أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت، قال: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله فكره الله لقاءه) متفق عليه.

وهذا الحديث يدل على أن كراهة الموت والخوف منه لا حرج فيه، ولا يدل ذلك على عدم الرغبة في لقاء الله؛ لأن المؤمن حين يكره الموت أو يخاف قدومه يرغب في المزيد من طاعة الله والإعداد للقائه، وهكذا المؤمنة حين تخاف من الموت وتكره قدومه إليها إنما تفعل ذلك رجاء المزيد من الطاعات والاستعداد للقاء ربها " انتهى.

" فتاوى الشيخ ابن باز " (٦/٣١٣) .

وحاصل الجواب: أن الخوف من الله والخوف من لقائه إذا كان الباعث عليه الخوف من التقصير في حقوق الله، لا حرج فيه، بل هو أمر ممدوح، وينبغي أن يكون دافعاً إلى الاستعداد لذلك اليوم بالعمل الصالح والتوبة النصوح واجتناب المعاصي.

ولمزيد الفائدة انظر جواب السؤال: (١٠٠٤٥١) .

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>