اعترفت لزوجها بماضيها، فصار يعيِّرها، ويشتمها؟
[السُّؤَالُ]
ـ[بحتُ لزوجي بأسرار من الماضي بعد إلحاح، وإصرار منه، أنا تبت، والتزمت ٣ سنوات قبل الزواج منه، ولازلت الآن - بفضل من الله تعالى -، لكن يؤرقني تأنيبه، وتشبيهي بأمثال الفاسقات، وأنني قليلة التربية، أنا راضية بقدري، وأحب زوجي، وأدعو الله أن يهدينا، ويصلح بالنا، ويبعد عنَّا شياطين الجن والإنس. وسؤالي: هل بأغلاطي، وذنوبي التي ارتكبتها في الماضي لا يجب أن يقال عنِّي طاهرة، وعفيفة، وأخت فاضلة، ومحصنة؟ وهل زوجي يأثم لسوء ظنه بي، وشتمه لي؟ وهل يعتبر ممن يقذف محصنة؟ أم لا يجوز أن يقال لأمثالي محصنة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
طلب الزوج من زوجته أن تبوح له بماضيها يدل على ضعف فهمه وسوء تقديره، فلا العقل يطلب ذلك البحث والتنقير، ولا الشرع يقبله. وقد أخطأت الزوجة في استجابتها لطلبه خطأ كبيرا، كثيرا ما يتكرر بين الأزواج.
هذا ما يجب أن يعرفه كل زوج وزوجة، فالحذر الحذر أيها الأزواج من هذا الفعل السيء فإنكم تفعلون ما لا يحل لكم شرعاً، وليس هذا من فعل العقلاء الشرفاء، واحذرن أيتها الزوجات، واستترن بستر الله تعالى، ولا تفضحن أنفسكن في لحظة حمق يعيشها الزوج معكن، يطلب منكن أن تبحن بأسرار الماضي إرضاء لغيرة عمياء عنده، أو تسلية بأخبار الزمان!!
وليس من شك في أن هذا الجهر بتلك المعاصي التي سترها الله تعالى على الزوجة من شأنه أن يشكك الزوج في تصرفات زوجته اللاحقة، ويُدخل الشيطان عليه أشكالاً من الريبة في حديثها، وهيئتها، ومن هنا نرى كثيراً ممن فقدوا معنى الرجولة، وقلَّ دينهم، يعيِّر زوجته بماضيها، بل ويقذفها، ويشتمها، بعد أن أعطاها الأمان لتقول له صفحات ماضيها السيئة.
وليس هذا في حقيقته سوى فتح لخرائب من الماضي تأوي إليها الشياطين، وفك لأغلال المردة يوشك أن يطيح بالبيت والأسرة.
ولا نملك إلا تذكير النساء بتحريم فعل ذلك، ولو ألح الزوج وأصر، بل لا يكون منكن إلا نفي أي ماضٍ سيء، بل الإصرار على العفة، والطهر، ولا تفضحن ما ستر الله عليكن إن كان لكن ماضٍ سيء، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وأنتم أيها الأزواج اتقوا الله في أسرتكم، واعلموا أنه لا يحل لكم طلب ذلك من نسائكم، ولا تغتروا بأنفسكم: أن ذلك لن يؤثر على حياتكم الزوجية؛، بل سيؤثر، ولا بدَّ أن ترى أثره السيء على نفسك، وفي حياتك الزوجية، عاجلاً، وقد أُمرت بالستر على من تراه يفعل المعصية، فكيف أن تنبش ماضٍ لم تشهده لتشهد عليه سماعاً، ومن امرأة تأتمنها على فراشك، وبيتك؟! فاتقوا الله في أنفسكم، وأزواجكم.
روى البخاري (٧٢٩٤) ومسلم (٢٣٥٩) واللفظ له، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّى لَهُمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ وَذَكَرَ أَنَّ قَبْلَهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْنِي عَنْهُ، فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونَنِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا!!
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْبُكَاءَ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ!! ...
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ [الزهري، راوي الحديث عن أنس] : أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ: مَا سَمِعْتُ بِابْنٍ قَطُّ أَعَقَّ مِنْكَ؛ أَأَمِنْتَ أَنْ تَكُونَ أُمُّكَ قَدْ قَارَفَتْ بَعْضَ مَا تُقَارِفُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحَهَا عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ؟!!
فانظر إلى عقل تلك المرأة، كيف رأت ما في هذا السؤال من المفسدة العظيمة بالنسبة للسائل، وأن ما يترتب عليه من المشقة والضيق أضعاف ما ظنه من الفائدة والمصلحة، رغم أنها على يقين من نفسها، وأنها مبرأة من أن يكون هذا الولد (عبد الله) لغير أبيه!!
وفي ذلك نزل قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) الآية، المائدة /١٠١، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما.
قال ابن كثير رحمه الله:
"هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا {عَنْ أَشْيَاءَ} مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها " انتهى. تفسير ابن كثير (٣/٢٠٣) .
وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله:
" ينهى عباده المؤمنين عن سؤال الأشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم وأحزنتهم، وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم، وعن حالهم في الجنة أو النار، فهذا ربما أنه لو بين للسائل لم يكن له فيه خير، وكسؤالهم للأمور غير الواقعة، وكالسؤال الذي يترتب عليه تشديدات في الشرع ربما أحرجت الأمة، وكالسؤال عما لا يعني ". انتهى. تفسير السعدي (٢٤٥) .
ثالثاً:
أنتِ أيتها الأخت السائلة: توبي إلى الله مما قلتيه لزوجك؛ فهو معصية، ما كان لك أن تفعليها، واعلمي أنه بتوبتك عن ماضيك النصوح عما كان منك تبدئين صفحة جديدة مع الله؛ فإن (التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ) كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم [رواه ابن ماجه (٤٢٥٠) ، وحسَّنه الشيخ الألباني في " صحيح ابن ماجه "] . لا، بل نرجو الله تعالى أن يكون بدَّل سيئاتك حسنات؛ لقوله تعالى – بعد أن ذكر الوعيد على فعل كبائر الذنوب -: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا. وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) الفرقان/ ٧٠، ٧١، فأنتِ ـ إن شاء الله ـ بتوبتك من الذنب تعودين عفيفة طاهرة، ولستِ فاسقة، ولا أمثال الفاسقات.
رابعاً:
لا يحل للزوج أن يعيرك بماضيك، ولا أن يشتمك، فإن فعل: أثم؛ لأذيته للك، ووقوعه في إثم السب والشتم، وكل ذلك محرَّم على المسلم تجاه أخيه المسلم.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) .
رواه البخاري (٥٦٩٧) ومسلم (٦٤) .
قال النووي – رحمه الله -:
السبُّ فى اللغة: الشتم، والتكلم فى عرض الإنسان بما يعيبه، والفسق فى اللغة: الخروج، والمراد به فى الشرع: الخروج عن الطاعة.
وأما معنى الحديث: فسبُّ المسلم بغير حق: حرامٌ بإجماع الأمَّة، وفاعله: فاسق، كما أخبر به النبى صلى الله عليه وسلم.
" شرح مسلم " (٢ / ٥٣، ٥٤) .
وقد جاء النهي عن " الأذية " و " التعيير " بالذنب، و " طلب العورة " في سياق حديث واحد، وفيه وعيد شديد لمن فعل ذلك.
عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَطْلُبُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ طَلَبَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ) .
رواه أحمد (٣٧ / ٨٨) وصححه محققو المسند.
وأما إن كان سبُّه وشتمه يحوي قذفاً – أي: اتهاماً بفعل الزنى -: ففيه تفصيل، تبعاً لما فعلتيه في ماضيكِ، وأظهرتيه له:
١. فإن كان – ونرجو المعذرة – قد وقع منك " زنى "، وأقررتِ له به: فلا يكون قاذفاً إن تكلم من العبارات ما فيه " قذف "؛ لسقوط الإحصان بإقراركِ.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَاّ قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ -: نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَائْذَنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (قُلْ) قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا ...
رواه البخاري (٦٤٤٠) ومسلم (١٦٩٧) .
قال ابن عبد البر – رحمه الله -:
وهذا قذف منه للمرأة، إلا أنها لمَّا اعترفت بالزنى: سقط حكم قذفها.
" الاستذكار " (٧ / ٤٨٢) .
ولا يعني أنه لا يكون قاذفاً أنه لا يأثم، ولا يُعزَّر، بل يأثم؛ للأذية، وللفحش في قوله، وعليه التعزير بما يراه الحاكم مناسباً، ولا يحل له تكرار القول، والقاعدة في هذا: " مَن لا يجِب عليه الحد لعدم إحصان المقذوف: يُعزَّر؛ لأنه آذى من لا يجوز أذاه ".
انظر" الموسوعة الفقهية " (٣٣ / ١٩) .
هذا من حيث الأصل، وهنا مسألتان:
أ. هل يكون قاذفاً إذا قذفكِ بالزنى المعتَرف به منكِ، وبغيره؟
الراجح: أنه يكون قاذفاً إن قذفك بزنى مبهم، أو بزنى غير معترف به منك.
وفي " الموسوعة الفقهية " (٣٣ / ١٩) – فيمن ثبت زناه ببينة، أو إقرار -:
وحكي عن إبراهيم – أي: النخَعي - وابن أبي ليلى: أنه إن قذفه بغير ذلك الزنا، أو بالزنا مبهماً: فعليه الحد؛ لأن الرمي موجب للحد، إلا أن يكون الرامي صادقاً، وإنما يكون صادقاً إذا نسبه إلى ذلك الزنا بعينه، ففيما سوى ذلك: فهو كاذب، مُلحق للشيْن به.
انتهى
ب. وهل لا يكون قاذفاً حتى لو كان بعد الزنى توبة؟
الراجح: أن من تاب من زناه: فكمن لم يزنِ، في الدنيا والآخرة؛ لحديث (التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ) ، خلافاً لمن قال من الشافعية إنه كذلك فقط في الآخرة.
وعليه: فإن تكلم بما فيه قذفك بعد توبتك: فهو قاذف، ولو أقررتِ له بتلك الفعلة منك.
قال المرداوي الحنبلي – رحمه الله -:
من تاب من الزنى، ثم قُذف: حُدَّ قاذفه، على الصحيح من المذهب.
" الإنصاف " (١٠ / ١٧١) .
٢. وإن لم يكن قد وقع منك تلك الفاحشة، لكنها علاقات محرمة، لم تصل لدرجة ارتكاب الزنى: فإن تكلم بما فيه قذفك: كان قاذفاً، وهو قد أثم إثماً زائداً على السب والشتم، وفعله كبيرة من كبائر الذنوب، وهو يوجب عليه حدَّ القذف، وهو الجلد ثمانين جلدة، ويُحكم عليه بأنه من الفاسقين، وترد شهادته؛ لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور/ ٤، وقال تعالى متوعداً القذفة في الدنيا والآخرة: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النور/ ٢٣.
والخلاصة:
أنه لا يحل له تعييرك بماضيك، وأنه قاذف بالطعن في عرضك فيما فيه اتهام بفعل الفاحشة إن لم يكن صدر منك فعل الفاحشة، وحتى لو صدر، فبما أنك تبتِ إلى الله: فهو قاذ، ومستحق للوعيد، والحد.
ونرجو الاطلاع على جوابي السؤالين: (٧٦٥٠) و (٩١٩٦١) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب