للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ليس في شريعتنا جواز إتيان الدبر

[السُّؤَالُ]

ـ[أرجو مساعدتي في معرفة الصواب، في البخاري الحديث رقم (٤١٧٠) و (٤١٧١) إن الإتيان في الدبر حلال، وموقعكم يقول إنه حرام، فما هو الصواب؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد للَّه

أولاً:

الأحاديث الصحيحة التي جاءت في تحريم إتيان الزوجة في الدبر كثيرة، فمن ذلك:

١- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) رواه أبو داود (٣٩٠٤) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

٢- وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ) رواه الترمذي (١١٦٥) وصححه ابن دقيق العيد في "الإلمام" (٢/٦٦٠) ، والألباني في صحيح الترمذي.

٣- وعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ) رواه ابن ماجه (١٩٢٤) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه.

والأحاديث في ذلك كثيرة، حتى قال الطحاوي رحمه الله في "شرح معاني الآثار" (٣/٤٣) : "جاءت الآثار متواترة بذلك " انتهى.

ولذلك كانت كلمة العلماء على الأخذ بهذه الأحاديث.

قال الماوردي رحمه الله تعالى في "الحاوي" (٩/٣١٩) :

" لأنه إجماع الصحابة: روي ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وابن مسعود وأبي الدرداء " انتهى.

وجاء في "المغني" (٧/٣٢) :

" ولا يحل وطء الزوجة في الدبر في قول أكثر أهل العلم: منهم علي وعبد الله وأبو الدرداء وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأبو هريرة، وبه قال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن ومجاهد وعكرمة والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر "

وقد سبق في موقعنا بيان ذلك بشيء من التفصيل، فانظر إجابات الأسئلة: (١١٠٣) ، (٥٢٨٠٣) .

ثانياً:

يتوهم بعض الناس جواز إتيان المرأة في دبرها، ويفهمون من قول الله تعالى: (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) البقرة/٢٢٣، أن الله سبحانه أباح في هذه الآية كل شيء، حتى الوطء في الدبر، وقد يتأكد هذا الوهم عندهم إذا قرؤوا الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه – ولعله الحديث الذي قصده السائل - والذي فيه: عن جابر رضي الله عنه قال: كَانَتِ اليَهُودُ تَقُولُ: إِذَا جَامَعَهَا مِن وَرَائِهَا جَاءَ الوَلَدُ أَحْوَل فنزلت (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) .

وهذا فهم خاطئ للآية، فإن قوله تعالى: (فأتوا حرثكم أنى شئتم) يعني إباحة أحوال وأوضاع الجماع المختلفة، إذا كانت في موضع الحرث: وهو الفرج، وليس الدبر، فيجوز أن يأتي الرجل زوجته من الخلف أو الأمام أو على جنب إذا كان ذلك في موضع الحرث، وليس الدبر.

ودليل ذلك أن رواية مسلم برقم (١٤٣٥) لحديث جابر السابق في سبب نزول الآية فيها: (إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ) .

(مُجَبِّيَةً) : أي: منكبة على وجهها، كهيئة السجود.

(في صمام واحد) : هو القبل.

وفي رواية أبي داود للحديث نفسه برقم (٢١٦٣) : عن محمد بن المنكدر قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: إِنَّ الْيَهُودَ يَقُولُونَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ فِي فَرْجِهَا مِنْ وَرَائِهَا كَانَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) .

وفي سنن الترمذي (٢٩٨٠) وحسنه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكْتُ. قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟! قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِي اللَّيْلَةَ. قَالَ: فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، قَالَ: فَأُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ، وَاتَّقِ الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ. حسنه الألباني في صحيح الترمذي.

فهذه الأحاديث والروايات توضح المقصود من الآية، فلا يجوز لمسلم أن يتجاوز ذلك إلى فهمه الذي لا يدل عليه الأثر ولا اللغة.

قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (٤/٢٦١) :

" وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دبرها من وجهين: أحدهما أنه أباح إتيانها في الحرث، وهو موضع الولد، لا في الحُش الذي هو موضع الأذى، وموضع الحرث هو المراد من قوله: (من حيث أمركم الله)

الوجه الثاني: أنه قال: (أنى شئتم) أي: من أين شئتم: من أمام أو من خلف. ال ابن عباس: (فأتوا حرثكم) يعني: الفرج " انتهى بتصرف.

ثالثاً:

ولعل السائل يعني أيضا ما رواه البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال: يأتيها في. . .

قال ابن حجر في "فتح الباري" (٨/١٨٩) :

" هكذا وقع في جميع النسخ، لم يذكر ما بعد الظرف وهو المجرور " انتهى.

ثم ذكر ما جاء من بعض الروايات خارج صحيح البخاري أن ابن عمر قال: يأتيها في دبرها.

وقد أجاب عن ذلك أهل العلم بجوابين:

الأول:

أنه حصل خطأ من بعض الرواة عن ابن عمر، وأنهم فهموا منه جواز إتيان الدبر، وهو إنما كان يحكي جواز إتيان المرأة في قبلها من خلفها، بدليل ما جاء من طرق صحيحة عنه أنه كان يرى حرمة إتيان الزوجة في دبرها، فقد روى النسائي في "السنن الكبرى" (٥/٣١٥) بسند صحيح أن ابن عمر سئل عنه فقال: أو يفعل ذلك مسلم؟!

قال ابن القيم رحمه الله في "تهذيب السنن" (٦/١٤٢) :

" فقد صح عن ابن عمر أنه فسر الآية بالإتيان في الفرج من ناحية الدبر،وهو الذي رواه عنه نافع، وأخطأ من أخطأ على نافع فتوهم أن الدبر محل للوطء لا طريق إلى وطء الفرج، فوقع الاشتباه في كون الدبر طريقا إلى موضع الوطء أو هو مأتى، واشتبه على من اشتبه عليه معنى (من) بمعنى (في) فوقع الوهم " انتهى.

الجواب الثاني:

أنه اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما في فهم الآية، وقد دلت السنة، وأقوال سائر الصحابة، أنه اجتهاد مجانب للصواب، وقد روى أبو داود برقم (٢١٦٤) وحسنه الألباني في صحيح أبي داود عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:

إِنَّ ابْنَ عُمَرَ - وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ - أَوْهَمَ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ - وَهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ - مَعَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ يَهُودَ - وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ -، وَكَانُوا يَرَوْنَ لَهُمْ فَضْلًا عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ، فَكَانُوا يَقْتَدُونَ بِكَثِيرٍ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَأْتُوا النِّسَاءَ إِلَّا عَلَى حَرْفٍ، وَذَلِكَ أَسْتَرُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ، فَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ أَخَذُوا بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ شَرْحًا مُنْكَرًا، وَيَتَلَذَّذُونَ مِنْهُنَّ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ،فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِهَا ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: إِنَّمَا كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ، فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِي. حَتَّى شَرِيَ أَمْرُهُمَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أَيْ: مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَوْضِعَ الْوَلَدِ.

وهذا قد يؤيد أن ابن عمر كان يقول بجواز الإتيان في الدبر، فلعله رجع إلى الصواب، بعد أن بَيَّن له ابن عباس أو غيره سبب نزول الآية ومعناها الصحيح، ولذلك ثبت عنه – كما تقدم – أنه كان يقول بتحريمه، ويقول: أو يفعل ذلك مسلم!!

والحاصل أن شريعتنا جاءت بتحريم هذا الفعل، وليس فيها شيء يدل على جوازه، ومن ظن في شيء من الكتاب أو السنة ما يدل عليه فقد أخطأ وأوهم.

والله تعالى أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>