للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

خطورة أمر الدَّيْن

[السُّؤَالُ]

ـ[أنا أعمل لأساعد زوجي في تكاليف المعيشة، فمُرَتَّبُه لا يكفي لسد احتياجاتنا الأساسية وتعليم أبنائنا، وكنت قد اقترضت مبلغا من المال من بعض الناس لسداد بعض الديون، والحمد لله، يمكنني أن أقول إن الله يختبر إيماننا فيما يتعلق " بالمال ". وفي يوم من الأيام كنت أستمع لمحاضرة حول العقوبة الشديدة على المسلم الذي لم يسدد ديونه، كما ذكر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على الميت الذي لم يسدد ديونه، وقد أورد المحاضر دعاءً لكني لم أتمكن من كتابته. أرجو أن تخبرني ما هي العقوبات؟ وتزودني بالدعاء لمساعدتي في تسديد ديوني؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد للَّه

أولا:

يعرف الفقهاء الدَّين بأنه " لزوم حق في الذمة " كما في "الموسوعة الفقهية" (٢١/١٠٢) ، ومعاني الدَّينِ اللغوية تدور حول الانقياد والذل، وبين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي رابط ظاهر، فإن المَدين أَسيرٌ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّ صَاحِبَكُمْ مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ) رواه أبو داود (٣٣٤١) وحسنه الألباني في صحيح أبي داود.

ثانيا:

قد جاءت الشريعة الإسلامية بالتشديد في أمر الدين، والتحذير منه، والترغيب في احتراز المسلم منه، ما أمكنه ذلك:

فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة:

(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ؟! فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ [أي: استدان] حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) رواه البخاري (٨٣٢) ومسلم (٥٨٩)

وروى النسائي (٤٦٠٥) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ رضي الله عنه قَالَ:

(كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟ فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ) حسنه الألباني في صحيح النسائي (٤٣٦٧)

وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من مات وعليه ديناران، حتى تكفل بسدادهما أبو قتادة رضي الله عنه، فلما رآه من الغد وقال له قد قضيتها، قال صلى الله عليه وسلم: (الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ) مسند أحمد (٣/٦٢٩) وحسنه النووي في "الخلاصة" (٢/٩٣١) وابن مفلح في "الآداب الشرعية" (١/١٠٤) وحسنه محققو مسند أحمد.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (٤/٥٤٧) :

" وفي هذا الحديث إشعار بصعوبة أمر الدين وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة " انتهى.

وعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ: الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ)

رواه الترمذي (١٥٧٢) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ) رواه الترمذي (١٠٧٨)

قال المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (٤/١٦٤) :

" قوله: (نفس المؤمن معلقة) قال السيوطي: أي محبوسة عن مقامها الكريم. وقال العراقي: أي أمرها موقوف لا حكم لها بنجاة ولا هلاك حتى ينظر هل يقضى ما عليها من الدين أم لا " انتهى.

وقد جاء عن كثير من السلف التحذير من الدين أيضا:

فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:

(َإِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ) رواه مالك في الموطأ (٢/٧٧٠)

وفي "مصنف عبد الرزاق" (٣/٥٧) :

قال ابن عمر رضي الله عنهما:

(يا حمران! اتق الله ولا تمت وعليك دين، فيؤخذ من حسناتك، لا دينار ثَمَّ ولا درهم)

ثالثا:

لم يأت كل هذا التشديد في أمر الدين إلا لما فيه من المفاسد على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع.

أما على مستوى الفرد فيقول القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (٣/٤١٧) :

" قال علماؤنا: وإنما كان شينا ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال، والهم اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه، وربما يعد من نفسه القضاء فيخلف، أو يحدث الغريم بسببه فيكذب، أو يحلف له فيحنث، إلى غير ذلك، وأيضا فربما قد مات ولم يقض الدين فيرتهن به، كما قال عليه السلام: (نسمة المؤمن مرتهنة في قبره بدينه حتى يقضى عنه) رواه الترمذي ١٠٧٨ وكل هذه الأسباب مشائن في الدين تذهب جماله وتنقص كماله " انتهى.

وأما على مستوى المجتمع، فيذكر المتخصصون من المفاسد ما هـ خطير على وضع الاقتصاد الأمثل:

١- نمو النزعة إلى تفضيل العاجل أو التلهف الزمني.

٢- ضعف روح المسؤولية والاعتماد على الذات.

٣- سوء توزيع الثروة.

وللتوسع في فهم هذه المفاسد ينظر دراسة فضيلة الشيخ سامي السويلم بعنوان "موقف الشريعة الإسلامية من الدين" (٦-١١)

رابعا:

وانطلاقا مما سبق اشترط العلماء لجواز الدين شروطا ثلاثة:

١- أن يكون المستدين عازما على الوفاء.

٢- أن يعلم أو يغلب على ظنه قدرته على الوفاء.

٣- أن يكون في أمر مشروع.

يقول ابن عبد البر في "التمهيد" (٢٣/٢٣٨) :

" والدين الذي يُحبَسُ به صاحبُه عن الجنة، والله أعلم، هو الذي قد تَرك له وفاءً ولم يوص به، أو قدر على الأداء فلم يؤد، أو ادَّانه في غير حق، أو في سرف ومات ولم يؤده.

وأما من ادَّان في حق واجب لفاقةٍ وعشرةٍ، ومات ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه به عن الجنة إن شاء الله " انتهى.

خامسا:

وما دمت - أختي السائلة الكريمة – قد ابتليت بالدين لقيامك بواجب مساعدة الزوج والأسرة على النهوض بأعباء الحياة، فلك الأجر عند الله سبحانه وتعالى على هذه العشرة الحسنة، فأسأل الله أن يجزل لك الأجر والمثوبة، واعلمي أنه سبحانه سيعينك على سداد هذا الدين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) رواه البخاري (٢٣٨٧) .

واستعيني على ذلك بالحرص والسعي الجاد لسداد الدين، وبالتوكل على الله تعالى، وبدعائه سبحانه أن ييسر لك ما تقضين به دينك.

وفي السنة النبوية مجموعة من الأدعية التي جاءت بخصوص الاستعانة بالله على قضاء الدين، وهي:

١- عَنْ سُهَيْلٍ قَالَ: كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَقُولُ:

(اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ)

وَكَانَ يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه مسلم (٢٧١٣)

٢- وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي.

قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ؟! قَالَ: قُلْ:

(اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ)

رواه الترمذي (٢٥٦٣) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وحسنه الألباني في صحيح الترمذي

الكتابة: المال الذي كاتب به السيد عبده، جبل صِير: هو جبل لطيء، ويروى صبير.

٣- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ:

دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ، فَقَالَ يَا أَبَا أُمَامَةَ! مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟! قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ:

(قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ)

قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي.

رواه أبو داود (١٥٥٥) وفيه غسان بن عوف قال الذهبي: غير حجة. لذلك ضعف الشيخ الألباني الحديث في ضعيف أبي داود. ولكن الدعاء المذكور، وهو قوله: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن.. ثابت في الصحيحين من غير قصة أبي أمامة هذه، والله أعلم.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>