للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تدعو عليه بزيادة الضلال

[السُّؤَالُ]

ـ[هناك إنسان آذاني كثيرا في حياتي، وأخذ أموالي ... بفضل من الله ابتعدت عنه، لكني دائما أدعو عليه، وأحتسب ذلك عند الله. سؤالي هو أني لا أرجو له التوبة، وأدعو الله أن يزيده ضلالا ... فهل هذا حرام؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولا:

للمظلوم عند الله تعالى شأن عظيم؛ لأن الله عز وجل يكره من الإنسان الكبرياء والتجبر والطغيان، ويحب منه التذلل إليه وإلى عباده، فهو سبحانه مع المستضعفين ومع المقهورين، وسينتصر للمظلومين من الظالمين.

ولذلك فقد رخص سبحانه للمظلوم أن يدعو على ظالمه، لينتصف منه في الدنيا قبل الآخرة، فيُشفِي شيئا من غيظه، ويستعجل بعضًا من حقه.

قال الله تعالى: (لَاْ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَاّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيْعًا عَلِيْمًا) النساء/١٤٨.

قال ابن كثير في "التفسير" (١/٥٧٢) :

" قال ابن عباسٍ في الآية: يقول: لا يحب الله أن يدعو أحدٌ على أحدٍ، إلا أن يكون مظلومًا، فإنّه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: (إِلّا مَنْ ظُلِمَ) ، وإن صبر فهو خيرٌ له " انتهى.

وفي موقعنا مجموعة من الأدلة على هذه المسألة، يمكن مراجعتها في جواب السؤال رقم: (٧١١٥٢)

ثانيا:

وفي السنة بيان للصيغة التي يفضل أن يدعو بها على الظالم:

فعن جابرٍ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(الَّلهُمّ أَصْلِحْ لِيْ سَمْعِي وَبَصَرِيْ، وَاجْعَلْهُمَا الوَارِثَيْنِ مِنّي، وَانصُرنِي عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، وَأَرِنِي مِنْهُ ثَأْرِي) .

رواه البخاري في الأدب المفرد (١/٢٢٦) ، وحسنه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (٣/٨٧) ، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قلّما كان يقوم من مجلسٍ حتّى يدْعو بهؤلاء الدّعوات لأصحابه: (الّلهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيَتِكَ. . . واجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَىْ مَنْ ظَلَمَنَا وَانصُرْنَا عَلَىْ مَنْ عَادَانَا. .)

رواه الترمذي (٣٥٠٢) وقال: حسن غريب، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.

ثالثا:

أما الدعاء على الظالم بالضلال وعدم الهداية، فهذا لا يجوز، ولا ينبغي أن يصدر هذا الدعاء من المسلم مهما كان الظلم الذي تعرض له، وذلك لأوجه عدة:

١- في الدعاء بزيادة الضلال والغواية طلب لاستمرار الكفر أو الظلم أو المعصية، والواجب على المسلم كره المعصية والسعي في تطهير الأرض منها، وليس في زيادتها واستمرارها.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ) إلى آخر الحديث. رواه مسلم (٢٧٣٥)

٢- وهو من الاعتداء في الدعاء الذي جاء ذمه في الكتاب والسنة الصحيحة.

يقول الله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الأعراف/٥٥

قال بعضُ السلف في معنى " المعتدين ":

" هم الذي يدعون على المؤمنين فيما لا يحلُّ، فيقولون: اللَّهمَّ اخزِهم، اللَّهمَّ الْعَنْهم " انتهى. "تفسير البغوي" (٣/٢٣٧)

وقال سعيد بن جبير: " لا تدعوا على المؤمن والمؤمنة بالشَّرِّ: اللَّهمَّ اخْزِه والْعَنه ونحو ذلك، فإنَّ ذلك عدوان " انتهى. "الدر المنثور" (٣/٤٧٥) .

وقال الحسن البصري:

(قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، من غير أن يعتدي عليه) انتهى. "تفسير ابن كثير" (١/٥٧٢) .

يقول ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (١٥/٢٢) :

" وعلى هذا فالاعتداء في الدعاء: تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات، وتارة يسأل ما لا يفعله الله، مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة ... ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله " انتهى.

وانظري جواب السؤال رقم (٤١٠١٧)

٣- وفي هذا الدعاء تحجير لرحمة الله، وتضييق لسعة عفوه ومغفرته، فهو سبحانه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء، وقد زجر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي الذي دعا بما يشبهه، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: (قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةٍ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا. - يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ -) رواه البخاري (٦٠١٠)

٤- وقد نهى الله تعالى نبيه عن نحو هذه الأدعية التي تتعلق بغواية الكفار وزيادة ضلالهم وعذابهم:

فعن ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ لْفَجْرِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا، بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ) إِلَى قَوْلِهِ (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) رواه البخاري (٤٠٦٩)

فالحاصل من هذه الأدلة أن الدعاء على الظالم بما فيه زيادته في الغي والضلال والمعصية لا يجوز، والأصل هو الدعاء بالهداية لجميع الناس، أو ترك أمرهم وشأنهم إلى الله عز وجل.

قال النووي في "الأذكار" (ص/٣٥٩) :

" لو دعا مسلمٌ على مسلمٍ فقال: اللهم اسلبه الإيمان؛ عصى بذلك. وهل يكفر الداعي بمجرد هذا الدعاء؟ فيه وجهان لأصحابنا، حكاهما القاضي حسين من أئمة أصحابنا في الفتوى، أصحهما: لا يكفر. وقد يحتج لهذا بقول الله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا) الآية. وفي هذا الاستدلال نظر وإن قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا ” انتهى.

ويقول الإمام القرافي:

" الدعاء على الظالم له أحوال:

إما بعزله لزوال ظلمه فقط، وهذا حسن.

وثانيها: بذهاب أولاده وهلاك أهله ونحوهم ممن له تعلق به، ولم يحصل منه جناية عليه، وهذا ينهى عنه لأذيته من لم يمُنَّ عليه.

وثالثها: الدعاء بالوقوع في معصيةٍ: كابتلائه بالشرب أو الغيبة أو القذف، فينهى عنه أيضًا؛ لأن إرادة المعصية للغير معصية.

ورابعها: الدعاء عليه بحصول مؤلماتٍ في جسمه أعظم مما يستحقه في عقوبته، فهذا لا يتجه أيضًا، لقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) البقرة/١٩٤ " انتهى نقلا عن "الفواكه الدواني" (١/٤٧٠) .

ثالثا:

قد يشتبه على بعض الناس دليلان، في ظاهرهما الدلالة على جواز الدعاء على الظالم بالإثم والمعصية.

أحدهما: من القرآن الكريم، وذلك في حكاية الله عز وجل عن موسى عليه السلام دعاءه على فرعون وقومه وفيه: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) يونس/٨٨

فالجواب عن هذا بأن يقال إن دعاء موسى جاء بعد علمه بوحي من الله تعالى أن قوم فرعون لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية ومعجزة، وليس فيه الدعاء مطلقا على كل كافر أو ظالم بطمس القلب واليأس من الإيمان والتوبة.

يقول ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (٤/٢٩٠) :

" (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) قال ابن عباس: أي اطبع عليها، (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ) وهذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضبًا لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنه لا خير فيهم، ولا يجيء منهم شيء، كما دعا نوح عليه السلام فقال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) " انتهى.

ويقول القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (٨/٣٧٥) :

" وقد استشكل بعض الناس هذه الآية فقال: كيف دعا عليهم، وحُكْم الرسل استدعاء إيمان قومهم؟

فالجواب: أنه لا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن من الله، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن، دليله قوله لنوح عليه السلام: (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) وعند ذلك قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) " انتهى.

ويقول الشيخ أحمد النفراوي في "الفواكه الدواني" (١/٤٧٠) :

" اختلف في جواز الدعاء على المسلم العاصي بسوء الخاتمة.

قال ابن ناجي: أفتى بعض شيوخنا بالجواز، محتجا بدعاء موسى على فرعون بقوله تعالى حكايةً عنه: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) يونس/٨٨

والصواب عندي أنه لا يجوز، وليس في الآية ما يدل على الجواز؛ لأنه فرق بين الكافر المأيوس من إيمانه كفرعون، وبين المؤمن العاصي المقطوع له بالجنة إما ابتداءً أو بعد عذابٍ " انتهى.

الثاني: حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، في قصة شكاية أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص إلى عمر، وقيام ذلك الرجل في المسجد واتهامه لسعد بتهم عدة قال:

(قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لأدْعُوَنَّ بِثَلَاثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ.

وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ.

قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ)

رواه البخاري (٧٥٥)

فظن بعض الناس أن سعدا دعا عليه بالمعصية والإثم، ولكن الصواب أنه دعا عليه بتعرضه للفتن والبلايا والمحن في الدين والدنيا – كما قال: " وعرضه بالفتن " - والفتنة لا تعني المعصية، ولكنها تعني الشدة التي قد توقع في المعصية إن لم يصبر عليها، وهذا ما حصل.

يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (٢/٢٤١) :

" وفيه جواز الدعاء على الظالم المعين بما يستلزم النقص في دينه، وليس هو من طلب وقوع المعصية، ولكن من حيث إنه يؤدي إلى نكاية الظالم وعقوبته " انتهى.

ثالثاً:

خيرٌ من ذلك كله: العفو، وترك أمر الظالم له سبحانه وتعالى يوم القيامة، وذلك أنّ من عفا عن حقّه في الدنيا، أخذه وافرًا في الآخرة، وأراح قلبه من شوائب الحقد والغيظ.

قال صلى الله عليه وسلم: (يَا عُقبَةَ بنَ عَامِر: صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّن ظَلَمَكَ) رواه أحمد (٤/١٥٨) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (٨٩١) .

وفي الختام: نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقك الزوج الصالح، ويسعدك بالأسرة الطيبة، ويفتح عليك من بركاته، ويرزقك خيري الدنيا والآخرة.

وانظري جواب السؤال رقم (٧١١٥٢)

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>