للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

كيف تعاد أرواح الكافرين بعد تحريق أجسادهم؟

[السُّؤَالُ]

ـ[كيف تعاد أرواح الكافرين بعد تحريق أجسادهم؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

إن الإيمان بأن الله على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن الله يبعث من في القبور، وأنه كما خلقهم من عدم قادر على أن يبعثهم كيف شاء ومتى شاء، على اختلاف صورهم، وتعدد مصارعهم، مما لا يتم الإيمان بالله إلا به.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ وَسَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا" انتهى.

"مجموع الفتاوى" (٨ / ٧) .

وقال أيضا:

"اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَمَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَالِ خَارِجًا عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ" انتهى. "مجموع الفتاوى" (١١ / ٣٥٤) .

وقال الله عز وجل:

(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يس/٧٨، ٧٩.

قال السعدي:

"هذا وجه الشبهة والمثل، وهو أن هذا أمر في غاية البعد على ما يعهد من قدرة البشر، وهذا القول الذي صدر من هذا الإنسان غفلة منه، ونسيان لابتداء خلقه، فلو فطن لخلقه بعد أن لم يكن شيئا مذكورا فَوُجِدَ عيانا، لم يضرب هذا المثل.

فأجاب تعالى عن هذا الاستبعاد بجواب شاف كاف، فقال: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهذا بمجرد تصوره، يعلم به علما يقينا لا شبهة فيه، أن الذي أنشأها أول مرة قادر على الإعادة ثاني مرة، وهو أهون على القدرة إذا تصوره المتصور" انتهى.

"تفسير السعدي" (ص ٦٩٩- ٧٠٠) .

وروى البخاري (٣٤٨١) ومسلم (٢٧٥٦) – واللفظ له - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لِأَهْلِهِ: إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَ اللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ. فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ. فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ) .

ولفظ البخاري: (إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ) .

قال شيخ الإسلام:

" فَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ قَدْ وَقَعَ لَهُ الشَّكُّ وَالْجَهْلُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إعَادَةِ ابْنِ آدَمَ؛ بَعْدَ مَا أُحْرِقَ وَذُرِيَ وَعَلَى أَنَّهُ يُعِيدُ الْمَيِّتَ وَيَحْشُرُهُ إذَا فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ وَهَذَانِ أَصْلَانِ عَظِيمَانِ:

أَحَدُهُمَا: مُتَعَلِّقٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. والثَّانِي: مُتَعَلِّقٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ هَذَا الْمَيِّتَ وَيَجْزِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِ " انتهى.

"مجموع الفتاوى" (١٢ / ٤٩١) .

فمتى علم العبد أن الله عز وجل على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، وأنه سبحانه أوجد الخلائق من عدم لم يمتنع لديه الإيمان بالبعث والنشور على أي صورة كان، دون أن يرهق عقله وفكره بالبحث والتحري الذي لا يجدي شيئا، ويكفيه دلالة الشاهد الذي لا يغيب عن ناظره، وهو نفسه، قال الله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) الذاريات/٢٠، ٢.

وقال الله عز وجل لعبده زكريا عليه السلام: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) مريم/٧-٩.

فليس خلق هذا الغلام من أم عاقر، وأب كبير في السن بأعجب من خلق الأب وإيجاده من العدم.

انظر: تفسير الطبري (١٨/١٥١) .

وقال تعالى عن مريم: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران/٤٧.

وقال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران/٥٩.

ثم هذه السماوات والأرض أمام عينيه، وما يشاهده بينهما من أفلاك ونجوم، لا يحصي عددها إلا الله، ولا يقادر قدرها أحد من خلقه، هي أكبر من خلق الناس، فالذي خلق السماوات والأرض مع عظمهما واتساعها قادر من باب أولى على إعادة خلق الإنسان مرة أخرى.

قال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) غافر/٥٧.

وقال تعالى: (أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس/٨١، ٨٢.

وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الروم/٢٧.

يعني: أيسر عليه. وقال مجاهد: الإعادة أهون عليه من البَدَاءة، والبداءة عليه هَيْنٌ. وكذا قال عكرمة وغيره.

"تفسير ابن كثير" (٦/٣١١) .

وروى البخاري (٤٩٧٤) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ , وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي. وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ) .

هذا.. وإن كان قصد السائل بسؤاله: كيف تعاد أرواح الكافرين بعد تحريق أجسادهم، يعني في النار يوم القيامة.

فيقال: إن أرواحهم باقية في أجسادهم، وإن حرقت بالنار، فيوم القيامة إذا عادت الروح إلى البدن لا تخرج منه أبدا، فتبقى روح الكافر في جسده معذبة، وتبقى روح المؤمن في جسده منعمة.

فإن أهل النار كلما احترقت جلودهم بالنار أبدلهم الله غيرها، حتى يستمر عذابهم ولا ينقضي، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء/٥٦.

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>