للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل يجوز لي أن أدعو على نفسي بالوفاة قبل بلوغ الأجل؟

[السُّؤَالُ]

ـ[أدعو ربي أن يتوفني قبل أجلي، وأنا في شهر رمضان، وفي سجودي، فهل يجوز لي أن أدعو بذلك أم لا يجوز؟ وجزاكم الله خيرا، وبارك فيكم، وكثر من أمثالكم.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

من دعا على نفسه بالموت قبل حلول الأجل فقد اعتدى في دعائه من جهتين:

من جهة عدم الإيمان بمضمون قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) النحل/٦١،

عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نفث روح القدس في روعي: أن نفسا لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها؛ فأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله؛ فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته) . رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (٨/١٦٦) ، وصححه الألباني.

فكل شيء عند الله بأجل معلوم محدود، وإذا دعا أحد على نفسه بالموت قبل الأجل دل على وجود الخلل في إيمانه بالقضاء والقدر وفهمه له.

ومن جهة الوقوع فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نهى أن يدعو المسلم بالموت على نفسه في أحاديث كثيرة، اتفق على صحتها أهل العلم جميعا.

هذا وإن كان أهل العلم يذكرون لتمني الموت حالات كثيرة، ولكل حالة حكمها، إلا أن الغالب في تمني الناس الموت إنما هو في الجانب المحظور الممنوع، ونحن ننقل هنا كلام أهل العلم في أقسام وحالات تمني الموت.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:

" خرج الإمام أحمد من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَمَنَّوْا الْمَوْتَ فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ شَدِيدٌ وَإِنَّ مِنْ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُ الْعَبْدِ وَيَرْزُقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ) – " مسند أحمد " (٢٢/٤٢٦) وحسنه المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة -.

فتمني الموت يقع على وجوه:

١- منها: تمنيه لضر دنيوي ينزل بالعبد: فينهى حينئذ عن تمني الموت، وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) - رواه البخاري (٦٣٥١) ، ومسلم (٢٦٨٠) -. ووجه كراهيته في هذا الحال أن المتمني للموت لضر نزل به إنما يتمناه تعجيلا للاستراحة من ضره، وهو لا يدري إلى ما يصير بعد الموت، فلعله يصير إلى ضر أعظم من ضره، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما يستريح من غفر له) – صحيح بطرقه، انظر " السلسلة الصحيحة " (١٧١٠) -، فلهذا لا ينبغي له أن يدعو بالموت، إلا أن يشترط أن يكون خيرا له عند الله عز وجل، فكذلك كل ما يعلم العبد فيه الخيرة له، كالغنى والفقر وغيرهما، كما يشرع له استخارة الله تعالى فيما يريد أن يعمله مما لا يعلم وجه الخيرة فيه، وإنما يسأل الله عز وجل على وجه الجزم والقطع مما يعلم أنه خير محض، كالمغفرة والرحمة والعفو والعافية والتقى والهدى ونحو ذلك.

٢- ومنها: تمنيه خوفَ الفتنة في الدين: فيجوز حينئذ، وقد تمناه ودعا به خشية فتنة الدين خلق من الصحابة وأئمة الإسلام، وفي حديث المنام: (وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) .

٣- ومنها: تمني الموت عند حضور أسباب الشهادة اغتناما لحضورها: فيجوز ذلك أيضا، وسؤال الصحابة الشهادة وتعرضهم لها عند حضور الجهاد كثير مشهور، وكذلك سؤال معاذ لنفسه وأهل بيته الطاعون لما وقع بالشام.

٤- ومنها: تمني الموت لمن وثق بعمله شوقا إلى لقاء الله عز وجل: فهذا يجوز أيضا، وقد فعله كثير من السلف: قال أبو الدرداء: أحب الموت اشتياقا إلى ربي. وقال بو عنبسة الخولاني: كان مَنْ قَبْلكم لقاء الله أحب إليه من الشهد. وقال بعضهم: طال شوقي إليك فعجِّل قدومي عليك. وقد دل على جواز ذلك قول الله عز وجل: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) البقرة/٩٤، وقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) الجمعة/٦، فدل ذلك على أن أولياء الله لا يكرهون الموت، بل يتمنونه، ثم أخبر أنهم: (لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) الجمعة/٧ فدل على أنه يكره الموت من له ذنوب يخاف القدوم عليها، كما قال بعض السلف: ما يكره الموت إلا مُريب. وفي حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك لذة النظر إلى وجهك، وشوقا إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) فالشوق إلى لقاء الله تعالى إنما يكون بمحبة الموت، وذلك لا يقع غالبا إلا عند خوف ضراء مضرة في الدنيا، أو فتنة مضلة في الدين، فأما إذا خلا عن ذلك كان شوقا إلى لقاء الله عز وجل، وهو المسؤول في هذا الحديث، فالمطيع لله مستأنس بربه، فهو يحب لقاء الله، والله يحب لقاءه، والعاصي مستوحش، بينه وبين مولاه وحشة الذنوب، فهو يكره لقاء ربه، ولا بد له منه. قال ذو النون: كل مطيع مستأنس، وكل عاص مستوحش.

قال أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما في وصيته له عند الموت: إن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت ولا بد لك منه، وإن ضيَّعتها لم يكن غائب أكره إليك من الموت ولن تعجزه. قال أبو حازم: كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت.

٥- ومنها: تمني الموت على غير الوجوه المتقدمة: فقد اختلف العلماء في كراهيته واستحبابه، وقد رخص فيه جماعة من السلف، وكرهه آخرون.

وقد علل النهي عن تمني الموت في حديث جابر بعلتين:

إحداهما: أن هول المطلع شديد، وهول المطلع: هو ما يكشف للميت عند حضور الموت من الأهوال التي لا عهد له بشيء منها في الدنيا، من رؤية الملائكة، ورؤية أعماله من خير أو شر، وما يبشر به عند ذلك من الجنة والنار، هذا مع ما يلقاه من شدة الموت وكربه وغصصه. قال الحسن: لو أعلم ابن آدم أن له في الموت راحة وفرحا لشق عليه أن يأتيه الموت، لما يعلم من فظاعته وشدته وهوله، فكيف وهو لا يعلم ما له في الموت: نعيم دائم، أو عذب مقيم. فالمتمني للموت كأنه يستعجل حلول البلاء، وإنما أمرنا بسؤال العافية.

وسمع ابن عمر رجلا يتمنى الموت فقال: لا تتمنى الموت فإنك ميت ولكن سل الله العافية.

قال إبراهيم بن أدهم: إن للموت كأسا، لا يقوى عليها إلا خائف وجل مطيع لله، كان يتوقعها.

حتى قال عمر عند موته: لو أن لي ما في الأرض لافتديت به من هول المُطَّلع.

والعلة الثانية: أن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرا، فمن سعادته أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة إليه، والتوبة من ذنوبه السالفة، والاجتهاد في العمل الصالح، فإذا تمنى الموت فقد تمنى انقطاع عمله الصالح، فلا ينبغي له ذلك.

وفي المعنى أحاديث كثيرة، وكلها تدل على النهي عن تمني الموت بكل حال، وأن طول عمر المؤمن خير له، فإنه يزداد فيه خيرا.

" انتهى باختصار.

" لطائف المعارف " (٢٩٥-٣٠٥) ، وينظر: "شرح حديث عمار بن ياسر"، للحافظ ابن رجب الحنبلي، رحمه الله.

وقد سبق التوسع في الجواب على هذا السؤال تحت الرقم: (٤٦٥٩٢)

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>