كيف يحافظ على صيامه في ظل هذه المعاصي؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف أحافظ على صيامي في ظل هذه المعاصي؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قد أحسنت – أخي – غاية الإحسان في سؤالك هذا، فهو يدل على حرص منك على طاعتك أن تضيع أو أن تنقص بسبب هذه المعاصي المنتشرة.
وعلينا أن نعلم جميعاً أن حقيقة الصوم ليس مجرد ترك الطعام والشراب، بل شرع الله تعالى الصيام لأجل أن نحصِّل التقوى، ولذا كان الصيام الحقيقي هو الصيام عن المعاصي بتركها وهجرها والكف عنها، وهو صوم القلب، لا فقط صوم الجوارح، وقد دلَْت عموم السنَّة وخصوصها على ما قلناه، وكذا جاء في كلام أهل العلم ما يبينه ويوضحه.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) رواه البخاري (١٨٠٤) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ) رواه أحمد (٨٦٩٣) .
وصححه ابن حبان (٨ / ٢٥٧) والألباني في " صحيح الترغيب " (١ / ٢٦٢) .
وقد كان الصحابة وسلف الأمة يحرصون على أن يكون صيامهم طُهْرة للأنفس والجوارح، وتَنزُّهًا عن المعاصي والآثام.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس الصيام من الشراب والطعام وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو.
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب، والمأثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء.
وعن حفصة بنت سيرين – وكانت عالمة من التابعين - قالت: الصيام جُنَّة، ما لم يخرقها صاحبها، وخرقها الغيبة.
وعن ميمون بن مهران: إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب.
ذكر هذه الآثار: ابن حزم في " المحلى " (٤ / ٣٠٨) .
ولا نعجب بعدها إذا علمنا أن بعض أهل العلم قال ببطلان صوم من وقع في المعصية أثناء صيامه، وإن كان الصحيح أنه لا يبطل الصوم، لكن لا شك في نقصانه، ومخالفته لحقيقة الصوم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"الغيبة تضر بالصيام، وقد حكي عن عائشة، وبه قال الأوزاعي: إن الغيبة تفطِّر الصائم، وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأفرط ابن حزم فقال: يبطله كل معصية من متعمِّد لها ذاكر لصومه، سواء كانت فعلاً، أو قولاً؛ لعموم قوله (فلا يرفث ولا يجهل) ؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) " انتهى.
" فتح الباري " (٤ / ١٠٤) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
"أما الذي يجب عنه الصوم: فلعلكم تستغربون إذا قلت: إن الذي يجب عنه الصوم هو: المعاصي , يجب أن يصوم الإنسان عن المعاصي؛ لأن هذا هو المقصود الأول في الصوم؛ لقول الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة/١٨٣، لم يقل: لعلكم تجوعون! أو لعلكم تعطشون! أو لعلكم تمسكون عن الأهل! لا، قال: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) , هذا هو المقصود الأول من الصوم , وحقَّق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأكده بقوله: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) إذاً أن يصوم الإنسان عن معاصي الله عز وجل , هذا هو الصوم الحقيقي، أما الصوم الظاهري: فهو الصيام عن المفطرات , الإمساك عن المفطرات تعبداً لله عز وجل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لقوله تعالى: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) البقرة/١٨٧، هذا صوم نسميه الصوم الظاهري، صوم البدن فقط , أما صوم القلب الذي هو المقصود الأول: فهو الصوم عن معاصي الله عز وجل.
وعلى هذا: فمن صام صوماً ظاهريّاً جسديّاً، ولكنه لم يصم صوماً قلبيّاً: فإنَّ صومه ناقص جدّاً جدّاً , لا نقول: إنه باطل، لكن نقول: إنه ناقص , كما نقول في الصلاة , المقصود من الصلاة الخشوع والتذلل لله عز وجل , وصلاة القلب قبل صلاة الجوارح , لكن لو أن الإنسان صلّى بجوارحه ولم يصلِ بقلبه، كأن يكون قلبه في كل وادٍ: فصلاته ناقصة جدّاً , لكنها مجزئة حسب الظاهر، مجزئة لكنها ناقصة جدّاً , كذلك الصوم ناقص جدّاً إذا لم يصم الإنسان عن معصية الله , لكنه مجزئ؛ لأن العبادات في الدنيا إنما تكون على الظاهر" انتهى.
" لقاءات الباب المفتوح " (١١٦ / ص ١) .
ثانياً:
وقد قسَّم العلماء الصبر إلى ثلاثة أقسام: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على القدَر، وقد جمع الصيام جميع أنواع الصبر.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
"وأفضل أنواع الصبر: الصيام؛ فإنه يجمع الصبر على الأنواع الثلاثة؛ لأنه صبر على طاعة الله عز وجل، وصبر عن معاصي الله؛ لأن العبد يترك شهواته لله ونفسه قد تنازعه إليها، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله عز وجل يقول: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به؛ لأنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي) ، وفيه أيضاً: صبر على الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصائم من الجوع والعطش " انتهى.
" جامع العلوم والحِكَم " (ص ٢١٩) .
فمن حقَّق صيامه كما شرعه الله تعالى فإنه يحصِّل ثواباً عظيماً، وأجراً جزيلاً من ربه تبارك وتعالى، ويكفيه قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوفَّى الصَّابِرونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر/١٠.
ثالثاً:
ولكي يحافظ المسلم على صيامه من نقصانه بسبب فعل المعاصي: فإنه يجب عليه تحقيق الصبر عن المعصية، وقد قال بعض العلماء إن الصبر عن المعصية أعظم من نوعي الصبر الآخرين؛ وما ذلك إلا لاجتماع دواعي الشر عليه أن يقع في المعصية.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وههنا مسألة تكلم فيها الناس وهي: أي الصبرين أفضل: صبر العبد عن المعصية، أم صبره على الطاعة؟ فطائفة: رجحت الأول، وقالت: الصبر عن المعصية من وظائف الصدِّيقين، كما قال بعض السلف: أعمال البر يفعلها البر والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صدِّيق، قالوا: ولأن داعي المعصية أشد من داعي ترك الطاعة؛ فإن داعي المعصية إلى أمر وجودي تشتهيه النفس، وتلتذ به، والداعي إلى ترك الطاعة: الكسل، والبطالة، والمهانة، ولا ريب أن داعي المعصية أقوى، قالوا: ولأن العصيان قد اجتمع عليه داعي النفس، والهوى، والشيطان، وأسباب الدنيا، وقرناء الرجل، وطلب التشبه والمحاكاة، وميل الطبع، وكلُّ واحدٍ من هذه الدواعي يجذب العبد إلى المعصية، ويطلب أثره، فكيف إذا اجتمعت، وتظاهرت على القلب، فأي صبر أقوى من صبر عن إجابتها، ولولا أن الله يصبره لما تأتَّى منه الصبر.
وهذا القول كما ترى حجته في غاية الظهور " انتهى.
" طريق الهجرتين " (ص ٤١٤) .
والصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة، فنرجو التأمل فيها، ففيها وصف دقيق للمرض، ووصف للعلاج.
قال ابن القيم رحمه الله:
"قاعدة الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة:
أحدها: عِلْم العبدِ بقبحها، ورذالتها، ودناءتها، وأن الله إنما حرَّمها، ونهى عنها صيانة، وحماية عن الدنايا، والرذائل، كما يحمي الوالدُ الشفيقُ ولدَه عما يضرُّه، وهذا السبب يحمل العاقل على تركها، ولو لم يعلق عليها وعيد بالعذاب.
السبب الثاني: الحياء من الله سبحانه؛ فإن العبد متى علم بنظره إليه، ومقامه عليه، وأنه بمرأى منه ومسمع وكان حيِّيّاً: استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه.
السبب الثالث: مراعاة نعَمه عليك، وإحسانه إليك؛ فإن الذنوب تزيل النعَم، ولا بد، فما أذنب عبدٌ ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب، وراجع: رجعت إليه أو مثلها، وإن أصرَّ: لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تُسلب النعمُ كلها، قال الله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، وأعظم النعَم: الإيمان، وذنب الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وانتهاب النهبة: يزيلها، ويسلبها، وقال بعض السلف: أذنبتُ ذنباً فحرِمت قيام الليل سنَة، وقال آخر: أذنبتُ ذنباُ فحرمتُ فهم القرآن، وفي مثل هذا قيل:
إذا كنتَ في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعَم
وبالجملة: فإنَّ المعاصي نارُ النعم تأكلها، كما تأكل النار الحطب، عياذاً بالله من زوال نعمته، وتحويل عافيته.
السبب الرابع: خوف الله، وخشية عقابه، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده، ووعيده، والإيمان به، وبكتابه، وبرسوله، وهذا السبب يَقوى بالعلم واليقين، ويضعف بضعفهما، قال الله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ، وقال بعض السلف: كفى بخشية الله علماً، والاغترار بالله جهلاً.
السبب الخامس: محبة الله، وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته، ومعاصيه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب: كان اقتضاؤه للطاعة، وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها، وفرقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده ... .
السبب السادس: شرف النفس، وزكاؤها، وفضلها، وأنفتُها، وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها، وتضع من قدرها، وتخفض منزلتها، وتحقرها، وتسوِّي بينها وبين السفلة.
السبب السابع: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية، وقبح أثرها، والضرر الناشيء منها من: سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه، وغمِّه، وحزنه، وألمه، وانحصاره، وشدة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعريه من زينته، والحيرة في أمره، وتخلي وليه وناصره عنه، وتولي عدوه المبين له، وتواري العلم الذي كان مستعدّاً له عنه، ونسيان ما كان حاصلاً له أو ضعفه ولا بد، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولا بد؛ فإن الذنوب تميت القلوب ... .
وبالجملة: فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً، فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته، وفي بعض الآثار يقول الله سبحانه وتعالى: (من ذا الذي أطاعني فشقي بطاعتي، ومن ذا الذي عصاني فسعد بمعصيتي) .
السبب الثامن: قصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قالَ في ظل شجرة ثم سار وتركها، فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حيص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل، ولا أضر من التسويف وطول الأمل.
السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه، ومشربه، وملبسه، ومنامه، واجتماعه بالناس؛ فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام، ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد: بطالته، وفراغه؛ فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره، ولا بد.
السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها: ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى: كان صبره أتم، وإذا ضعف الإيمان: ضعف الصبر، فإن من باشر قلبَه الإيمانُ بقيام الله عليه، ورؤيته له، وتحريمه لما حرم عليه وبغضه له ومقته لفاعله، وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار: امتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم، ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت: فقد غلط، فإذا قوي سراج الإيمان في القلب وأضاءت جهاته كلها به وأشرق نوره في أرجائه: سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة، بل تفرح بدعوته حين يدعوها، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته، فهو كلَّ وقتٍ يترقب داعيه، ويتأهب لموافاته، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم " انتهى.
" طريق الهجرتين " (ص ٤٠٨ – ٤١٤) باختصار.
والمطلوب من المسلم أن يعرف حقيقة ما أراده الله من الصوم، ويعرف الدافع له لفعل المعصية، فيبتعد عنه، ويهجره، ويبغضه، وما نقلناه من كلام ابن القيم يوضح هذا ويبينه أحسن بيان.
وانظر جواب السؤال رقم (١٢٤٦٨) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب