هل ثبت وقوع المغيرة بن شعبة في الزنا؟ وما حكم من يفعل مقدماته في الشرع؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت في موقعكم تحت عنوان: (الشهود الأربعة في حد الزنى فقط) : " أن الشهود على المغيرة بن شعبة بالزنا لما شهدوا به عند عمر رضي الله عنه، وهم أبو بكرة، ونافع، ونفيع، وزياد، فصرح بذلك أبو بكرة، ونافع، ونفيع، فأما زياد فقال له عمر: قل ما عندك، وأرجو أن لا يهتك الله صحابيّاً على لسانك، فقال زياد: " رأيت نفساً تعلو، أو استاً تنبو، ورأيت رجليها على عنقه كأنهما أذنا حمار، ولا أدري يا أمير المؤمنين ما وراء ذلك، فقال عمر: الله أكبر، فأسقط الشهادة ولم يرها تامة ". وإني أحب الله، ورسوله، وصحابته، ولكني صدمت بهذا الكلام، فهل يعقل أن صحابيّاً راويا للأحاديث كالمغيرة بن شعبة يقوم بهذا الأمر، وإن لم يثبت أنه زنا، ولكن ثبت أنه قام بمقدمات الزنا على الأقل، كما وصف الشاهد الرابع زياد، أفلا يقدح ذلك بعدالته؟ وضحوا لنا الأمر جزيتم خيراً، فإن الكلام في صحابة رسولنا الكريم قد كثر هذه الأيام كي لا تشوه صورتهم في أعيننا. وثانياً: هل ثبوت مقدمات الزنا عليه عقاب في الإسلام؟ وإن كان نعم فما فعل عمر رضي الله عنه بالمغيرة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الصحابي الجليل " المغيرة بن شعبة " هو أحد أصحاب " بيعة الرضوان " الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، والذين أثنى الله عليهم بالخير، وأخبر أنه رضي عنهم، قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا. وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) الفتح/١٨، ١٩.
قال ابن كثير – رحمه الله -:
" يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وقد تقدم ذكر عدتهم، وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض " الحديبية ".
وقوله: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) أي: من الصدق، والوفاء، والسمع، والطاعة.
(فَأَنزلَ السَّكِينَةَ) : وهي الطمأنينة، (عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) : وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر، وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد، والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العز، والنصر، والرفعة في الدنيا، والآخرة، ولهذا قال: (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) " انتهى.
" تفسير ابن كثير " (٧/٣٣٩، ٣٤٠) .
وقد أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد لهم بالخيرية، وأخبر أنهم من أهل الجنة:
أ. عن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: (أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ) رواه البخاري (٢٩٢٣) ومسلم (١٨٥٦) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: " هذا صريح في فضل " أصحاب الشجرة "، فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعةٌ بمكة، وبالمدينة، وبغيرهما " انتهى.
" فتح الباري " (٧ / ٤٤٣) .
ب. عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو حَاطِبًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَذَبْتَ، لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ) رواه مسلم (٢٤٩٥) .
ج. عن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قال: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ: (لَا يَدْخُلُ النَّارَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا. قَالَتْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) رواه مسلم (٢٤٩٦) .
قال النووي – رحمه الله -: " ال العلماء: معناه: لا يدخلها أحدٌ منهم قطعاً، كما صرح به في الحديث الذي قبله - حديث حاطب - وإنما قال: (إن شاء الله) للتبرك لا للشك، وأما قول حفصة بلى، وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها ... فيه دليل للمناظرة، والاعتراض والجواب، على وجه الاسترشاد، وهو مقصود حفصة؛ لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم.
والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط، وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون " انتهى.
" شرح مسلم " (١٦ / ٥٨) .
وقد أسلم " المغيرة بن شعبة " رضي الله عنه عام الخندق، وأول مشاهده: الحديبية، ثم شهد اليمامة، وفتوح الشام، والقادسية، ونهاوند، وهمدان، وغيرها.
قال عنه الحافظ الذهبي – رحمه الله -: " من كبار الصحابة، أولي الشجاعة والمكيدة، شهد بيعة الرضوان، كان رجلا طِوالاً، مهيبا، ذهبت عينه يوم اليرموك، وقيل: يوم القادسية " انتهى.
"سير أعلام النبلاء" (٣/٢١) .
وما جاء في روايات عدة من شهادةٍ عليه رضي الله عنه بالزنا: لم يثبت نصاب الشهادة فيها، ولا يمكن لأحدٍ أن يتهمه رضي الله عنه بتلك الفاحشة البغيضة من غير اعتراف، أو شهادة أربعة رجال، وكلا الأمرين معدوم، وقد جلد عمر رضي الله عنه الثلاثة الذين اتهموه بالزنا؛ لعدم اكتمال نصاب الشهادة، بعد تردد الرابع، وعدم شهادته، ولم يصنع شيئاً مع المغيرة لعدم ثبوت أصل الواقعة شرعاً.
وأما بخصوص المروي في وصف فعله رضي الله مع تلك المرأة: فالجواب عنه من وجوه:
١. سقوط ذلك كله شرعاً، وعدم ثبوت شيء منه؛ لتخلف نصاب الشهادة.
٢. أن كثيراً من تلك الروايات لم تصح أصلاً من حيث إسنادها.
٣. أن ذلك الأمر الذي حصل – إن جزمنا بحصوله واقعاً، وهو ما سبب إشكالاً عند كثيرين – لم يكن مع امرأة أجنبية، بل كان مع زوجةٍ من نسائه تشبه تلك التي ادُّعي عليها فعل الفاحشة مع ذلك الصحابي الجليل.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله -: " يظهر لنا في هذه القصة أن المرأة التي رأوا المغيرة رضي الله عنه مخالطاً لها عندما فتحت الريح الباب عنهما: هي زوجته، ولا يعرفونها، وهي تشبه امرأة أخرى أجنبية كانوا يعرفونها تدخل على المغيرة وغيره من الأمراء، فظنوا أنها هي، فهم لم يقصدوا باطلاً، ولكن ظنهم أخطأ، وهو لم يقترف - إن شاء الله - فاحشة؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم فيهم الوازع الديني الزاجر عما لا ينبغي في أغلب الأحوال، والعلم عند الله تعالى " انتهى.
"مذكرة في أصول الفقه" (ص ١٥٢) .
٤. وأمر آخر يخص الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة، وهو أنه كثير الزواج، فأي حاجة ليفعل الحرام، وهو يجد من الحلال الكثير؟! .
قال الذهبي – رحمه الله -: " عن المغيرة بن شعبة قال: لقد تزوجت سبعين امرأة، أو أكثر.
أبو إسحاق الطالقاني: حدثنا ابن المبارك قال: كان تحت المغيرة بن شعبة أربع نسوة، قال: فصفهن بين يديه، وقال: أنتن حسَنات الأخلاق، طويلات الأعناق، ولكني رجل مطلاق، فأنتن الطلاق.
ابن وهب: حدثنا مالك قال: كان المغيرة نكَّاحا للنساء، ويقول: صاحب الواحدة إن مرضت مرض، وإن حاضت حاض، وصاحب المرأتين بين نارين تشعلان، وكان ينكح أربعا جميعاً، ويطلقهن جميعاً " انتهى.
" سير أعلام النبلاء " (٣ / ٣١) .
٥. ومعروف غيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على حرمات الله، وقوته في دينه، ومعروف ـ أيضا ـ تشدده مع ولاته، وقد ولَّى المغيرةَ بعد تلك الحادثة إمرة " الكوفة "! ولو أنه ثبت عنده شبهة تلك المعصية فلعله لا يوليه ولاية قط، وهذا يعني اقتناع عمر بعدم حصول تلك الواقعة أصلاً، أو اقتناعه بأنها كانت زوجته، ولعل الثاني هذا هو الأقرب.
وبما قلناه يسقط السؤال من أصله، وليس ثمة حاجة للبحث في حكم فعله رضي الله عنه؛ لأن ذلك السؤال مبني على كون تلك المرأة أجنبية.
ثانياً:
أما من حيث الحكم الشرعي ابتداءً: فإن مقدمات الزنى من الفواحش، وقد سمَّاها الشرع " زنى "، لكن الزنى الذي تترتب عليه الأحكام، ويوجب الحدود: هو زنى الفرج، لا زنى الأعضاء الأخرى.
وقد روى البخاري (٦٢٤٣) ومسلم (٢٦٥٧) عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيُكَذِّبُهُ) .
وقد نهى الله تعالى عن مقدمات الزنى، فقال: (وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) الإسراء/٣٢، وقال: (وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) الأنعام/١٥١.
وللحاكم إن ثبت عنده فعل أحد من المسلمين مثل تلك المقدمات أن يعزره بما يراه مناسباً لحاله، وفعله، فليس في تلك الأفعال حدود، بل فيها التعزير.
وينظر النقل في ذلك عن الأئمة، مع شيء من التفصيل في أصل المسألة: جواب السؤال رقم: (٢٧٢٥٩) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب