للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حكم تقبيل قدمي الوالدين ومن في منزلتهم

[السُّؤَالُ]

ـ[إنني مشوَّش حيال لمس قدم أشخاص آخرين، أو تقبيلها، فقد قرأت في مدونة بأن " طاهر القدري " قد أظهر أدلة من الأحاديث بأنه من الجائز لمس قدم الآخرين، أو تقبيلها، وأن البخاري كانت له رؤى حيال هذا الأمر، وقد كتب كتباً في صحة هذا الأمر، وأن طاهر القدري قد دعم رؤيته بأحاديث موضوعة، أو ضعيفة، فماذا يجب أن يكون موقفنا حيال طاهر القدري؟ .]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

أشهر ما يُستدل به على تقبيل الرِِّجْلين: حديثان، وحادثة، أما الحديث الأول: ففيه تقبيل يهودييْن لرجلَي النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني: فيه تقبيل وفد عبد القيس لرجل النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الحادثة: ففيها تقبيل الإمام مسلم لرجليْ الإمام البخاري، رحمهما الله، ونحن نذكر تفصيل ذلك، وكلام العلماء حولها.

الحديث الأول:

عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ رضي الله عنه قَالَ: (قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ، فَقَالَ صَاحِبُهُ: لَا تَقُلْ نَبِيٌّ، إِنَّهُ لَوْ سَمِعَكَ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَقَالَ لَهُمْ: (لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلَا تَسْحَرُوا، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلَا تُوَلُّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً الْيَهُودَ أَنْ لَا تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ) قَالَ: فَقَبَّلُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ، فَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قَالُوا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لَا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ تَبِعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ) .

رواه الترمذي (٢٧٣٣) ، والنسائي (٤٠٧٨) ، وابن ماجه (٣٧٠٥) ، وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي"، وصححه كثيرون، كالحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (٥/٢٤٠) ، وابن الملقن في "البدر المنير" (٩/٤٨) ، والنووي في "المجموع" (٤/٦٤٠) ، و"رياض الصالحين" (حديث ٨٨٩) .

قال ابن كثير رحمه الله:

وهو حديث مشكل، وعبد الله بن سلِمة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون.

"تفسير ابن كثير" (٥/١٢٥) .

وقال الزيلعي رحمه الله:

والحديث فيه إشكالان:

أحدهما: أنهم سألوا عن تسعة، وأجاب في الحديث بعشرة، وهذا لا يرِد على رواية أبي نعيم والطبراني؛ لأنهما لم يذكرا فيه "السحر"، ولا على رواية أحمد أيضاً؛ لأنه لم يذكر "القذف" مرة، وشك في أخرى، فيبقى المعنى في رواية غيرهم: أي: "خذوا ما سألتموني عنه وأزيدكم ما يختص بكم لتعلموا وقوفي على ما يشتمل عليه كتابكم".

الإشكال الثاني: أن هذه وصايا في التوراة، ليس فيها حجج على فرعون وقومه، فأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون؟! وما جاء هذا إلا من عبد الله بن سلمة؛ فإن في حفظه شيئًا، وتكلموا فيه، وأن له مناكير، ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات، فاشتبه عليه بالتسع الآيات، فوهِم في ذلك، والله أعلم.

"تخريج الكشاف" (٢/٢٩٣) .

والحديث: بوَّب عليه الترمذي بقوله: " باب ما جاء في قبلة اليد والرِّجل ".

قال ابن بطَّال رحمه الله:

قال الأبهرى: وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه التكبر، والتعظيم لمن فُعِلَ ذلك به، وأما إذا قبَّل إنسانٌ يدَ إنسانٍ، أو وجهه، أو شيئًا من بدنه – ما لم يكن عورة - على وجه القربة إلى الله، لدينه، أو لعلمه، أو لشرفه: فإن ذلك جائز.

"شرح صحيح البخارى" (٩/٤٦) .

وقال المباركفوري رحمه الله:

والحديث يدل على جواز تقبيل اليد والرِّجْل.

"تحفة الأحوذي" (٧/٤٣٧) .

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:

الحاصل: أن هذين الرجلين قبَّلا يدَ النبي صلى الله عليه وسلم، ورِجْله، فأقرهما على ذلك، وفي هذا: جواز تقبيل اليد، والرِّجْل، للإنسان الكبير الشرَف والعلم، كذلك تقبيل اليد، والرِّجْل، من الأب، والأم، وما أشبه ذلك؛ لأن لهما حقّاً، وهذا من التواضع.

"شرح رياض الصالحين" (٤/٤٥١) .

وسئل الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله:

أبي - أحياناً - يأمرني بتقبيل رِجله مازحاً؟ .

فأجاب:

لا مانع مِن أن تقبلها.

"شرح سنن أبي داود" (٢٩/٣٤٢) .

الحديث الثاني:

عن أُمّ أَبَانَ بِنْتِ الْوَازِعِ بْنِ زَارِعٍ عَنْ جَدِّهَا زَارِعٍ - وَكَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ - قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرِجْلَهُ.

رواه أبو داود (٥٢٢٧) ، وجوَّد الحافظ ابن حجر إسناده في "فتح الباري" (١١/٥٧) ، وحسَّنه الألباني في "صحيح أبي داود" وقال: "حسنٌ، دون ذِكر الرِّجْلين".

والحديث بوَّب عليه أبو داود بقوله: "بَاب فِي قُبْلَةِ الرِّجْلِ".

أما الحادثة:

فهي حوار حصل بين الإمامين البخاري ومسلم، وقد اشتهر أن الإمام مسلماً قبَّل رجليْ البخاري، وأثنى عليه بعلمه، والصحيح: أنه ليس في القصة إلا تقبيل ما بين عيني الإمام البخاري، وأن مسلماً طلب من البخاري أن يقبِّل رجليه، وليس في القصة أنه فعل ذلك.

ففي "تاريخ بغداد" (١٣/١٠٢) عن أحمد بن حمدون القصار قال: سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبَّل بين عينيه، وقال: دعني حتى أقبِّل رجليك، يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله.

وفي "تاريخ دمشق" (٥٢/٦٨) :

فقبَّل بين عينيه، فقال: دعني حتى أقبِّل رجليك، يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث. انتهى.

وللفائدة: فقد ضعَّف الحافظ العراقي رحمه الله هذه القصَّة، وردَّ عليه تلميذه الحافظ ابن حجر بأنها ثابتة وصحيحة.

قال الحافظ العراقي رحمه الله:

والغالب على الظن: عدم صحتها، وأنا أتهم بها " أحمد بن حمدون القصار " راويها عن مسلم؛ فقد تُكلم فيه.

"التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح" (ص ١١٨) .

ورد الحافظ ابن حجر على العراقي فقال:

الحكاية صحيحة، قد رواها غير الحاكم على الصحة، من غير نكارة، وكذا رواها البيهقي عن الحاكم على الصواب، كما سنوضحه؛ لأن المنكَر منها إنما هو قوله: "إن البخاري قال: لا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث الواحد المعلول"، والواقع: أن في الباب عدة أحاديث لا يخفى مثلها على البخاري ".

والحق أن البخاري لم يعبِّر بهذه العبارة، وقد رأيت أن أسوق لفظ الحكاية من الطريق التي ذكرها الحاكم وضعفها الشيخ، ثم أسوقها من الطريق الأخرى الصحيحة التي لا مطعن فيها، ولا نكارة، ثم أبيِّن حال الحديث، ومن أعلَّه، أو صححه لتتم الفائدة ... .

"النكت على كتاب ابن الصلاح" (٢/٧١٥، ٧١٦) .

ثانياً:

حيث نقول بجواز تقبيل الرجلين: فإنه لا بدَّ من ضوابط لهذا الجواز، ومنها:

١. أن يكون هذا التقبيل للوالدين، وأهل العلم.

وقد سبق النقل على الشيخين العثيمين والعبَّاد ما يؤيد ذلك.

٢. أن يكون التقبيل قربة إلى الله، لا لدنيا يصيبها، ولا مع ذل يلحقه.

قال النووي رحمه الله:

وأما تقبيل يده لِغِناه، ودنياه، وشوكته، ووجاهته عند أهل الدنيا بالدنيا ونحو ذلك: فمكروه شديد الكراهة، وقال المتولي: لا يجوز، فأشار إلى تحريمه.

"المجموع شرح المهذب" (٤/٦٣٦) .

وقال:

وتقبيل رأسه ورِجله: كيَده.

"المجموع شرح المهذب" (٤/٦٣٦، ٦٣٧) .

٣. أن لا يُفعل هذا التقبيل مع من يحرص عليه، ومن حرص على أن يقبِّل الناس يده: لم يستحق تقبيلها، فكيف بتقبيل رجليه؟! .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

وأما ابتداء مدِّ اليدِ للناس ليقبِّلوها، وقصده لذلك: فيُنهى عن ذلك، بلا نزاع، كائناً من كان، بخلاف ما إذا كان المقبِّل المبتدئ بذلك.

"المستدرك على مجموع الفتاوى" (١/٢٩) .

وقال الشيخ العثيمين رحمه الله:

الذي يُنتقد من بعض الناس: أنه إذا سلَّم عليه أحد: مَدّ يده إليه، وكأنه يقول: قَبِّل يدي! فهذا هو الذي يُستنكر، ويقال للإنسان عندئذ: لا تفعل.

"شرح رياض الصالحين" (٤/٤٥٢) .

٤. أن لا يكون هذا التقبيل إلا نادراً، وحيث يقتضيه الفعل، لا في كل مرة يلقاه فيها.

قال الشيخ العثيمين رحمه الله:

أما مَن يقبِّل يدك تكريماً، وتعظيماً، أو رأسك، أو جبهتك: فهذا لا بأس به، إلا أن هذا لا يكون في كل مرة يلقاك؛ لأنه سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك إذا لاقى الرجل أخاه أينحني له؟ قال: (لا) قال: أيقبله ويعانقه؟ قال: (لا) ، قال: أيصافحه؟ قال: (نعم) .

لكن إذا كان لسبب: فلا بأس للغائب ... .

"شرح رياض الصالحين" (٤/٤٥٢) .

وانظر جواب السؤال رقم: (٢٠٢٤٣) .

ثالثاً:

أما بخصوص " طاهر القدري ": فليس عندنا معلومات وافية عنه، وبكل حال: فمن استدل بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة فإنها لا تقبل منه، وقد أغنانا الله تعالى بما ثبت في صحيح السنَّة.

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>