والدتها تسيئ معاملتها
[السُّؤَالُ]
ـ[يوجد تفرقة في المعاملة بين الأخوات من قبل الأهل، التحكم والسيطرة من قبل الوالدين في التصرفات والملبس والمأكل، ولا تقل لي إنهم ينصحونني بالزى الإسلامي، بل على العكس (وضع ماكياج لإعجاب العرسان) هم يريدونني أن لا أصرف من مرتبي، أو عدم الذهاب كثيرا للملاجئ والمسنين، وأمي تريدنا أن نذهب لأهلها فقط، وأبي لا يبالي، فَهَمُّه جمع المال والأكل؛ فهو شخصية ضعيفة مع أمي المتسلطة، وأختي الوحيدة تابعة لأمي في كل شيء، وفي المقابل أمي تعاملها أحسن وباهتمام وتكبرها علي، لقد احتسبت الله بيني وبينهم،
أريد فقط أن أعرف ما معنى المعاملة بالإحسان، وكيف أضبط انفعالي معها وهى تكذب؟ وهل قولي لها أنت كاذبة حرام؟ وماذا أفعل عندما يضيق صدري وتبتل وسادتي مما تفعله وتقوله عني أمام الناس؟ والله المستعان.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كثيرة هي المشاكل التي تعرض في حياة الأسرة المسلمة، كما أنها متنوعة بتنوع نواحي الحياة المختلفة إلى اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية، ولكن من أخطر أنواع المشاكل تلك التي يعاني فيها الأبناء من تصرفات آبائهم، ذلك أن الواجب أن يقوم الوالدان باحتواء أبنائهم وشملهم بعطفهم ورعايتهم، وتفهم حاجاتهم، ومراعاة نفسياتهم، في حين أن الحال ينعكس في هذا النوع من المشاكل، حيث تتغير وجهة الخطاب لتصبح موجهة إلى الأبناء، كي تتسع صدورهم ونفوسهم لما يعانونه من والديهم.
وفي ذلك دعوة للجيل القادم كي يستفيد من التجربة، فيقوم بدور الأبوة الذي سيسخره الله له، ولن يعذره أحد بالجهل أو قلة المعرفة، كما يمكن أن يعذر به الجيل السابق، فإن تعلم وسائل التربية الإسلامية الصحيحة أمر ميسور اليوم، ولا يعجز عنه إلا عاجز.
وسوف نعترف لك ـ مقدما ـ بأن حديثنا هنا ربما يبدو وكأنه يهون من مشكلة، هي كبيرة في حقيقة الأمر، ونقول لك أختنا الكريمة: لا عيب في ذلك، فإذا قدر أن ذلك التهوين يخفف عنا بعضا من أعباء تلك المشاكل، وإحساسنا بوطأتها، فأهلا به، وهو جزء من العلاج:
فَقُلتُ لَها يا عَزَّ كُلُّ مُصيبَةٍ إِذا وُطِّنَت يَومًا لَها النَفسُ ذلَّتِ
وإذا كان لهذه المشكلة طرفان: أحدهما أنت، والآخر: أسرتك؛ أمك، وأبوك ـ أيضا ـ، ثم أختك؛ فإن حديثنا سوف ينصب في معظمه ـ أيضا ـ عليك، وأنت الشاكية، وأنت المظلومة، كما يبدو لنا من رسالتك؟!!
وإذا بدا ذلك نوعا من الاستسهال في التعامل مع المشكلة، فليكن ـ أختنا الكريمة ـ؛ فلا أنت، ولا نحن نريد تعقيد المشكلة، ولا إلهاب العداوة، إنما نريد الحل، بغض النظر عن طرف الخيط الذي نمسك به؛ فالمهم أن نحل المشكلة، إن استطعنا، أو ـ على أقل تقدير ـ ألا نزيدها تعقيدا!!
لو كان أبوك يسمع لنا لقلنا له: الواجب الأول عليك، والدور الكبير لك، فأنت القيم، وأنت الراعي ومسئول عن رعيتك؛ لكنه لم يسألنا، ولا نظنه يسمع لنا صوتا!!
لو كانت أمك تسمع نداءنا لقلنا لها: اللهَ الله في أبنائكِ، فحقهم واحد، والعدل بينهم واجب:
( ... فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ) متفق عليه، واللفظ للبخاري
لو كانت أمك تسمع لنا لقلنا لها: (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا) رواه مسلم (١٨٣٧) .
لقد كان من الممكن أن نقول الكثير، لو كان طرف المشكلة الآخر يسمع لنا!!
لكننا الآن مضطرون إلى أن نوجه حديثنا إلى طرف واحد، هو أنت، وأن نحمل عبء الحل على جانب واحد، هو أنت، فأنت الخيط الذي نملك أن نجذبه، إذا كنا نريد أن نحل العقدة التي تؤرقك!!
وإذا كان واضحا أنك أمام أزمة في التفاهم مع والدتك، وهذه حقيقة يجب أن تبدئي العلاج منها، فلا تحاولي الفرار ورفض الاعتراف وتقبل هذه المشكلة، ويتمثل ذلك بالانفعالات الغضبية التي تصيبك أثناء تعاطيك مع الوالدة، ونحن لا نظن أنها تصدر إلا ممن يحاول الهروب من واقعه، ولم يتفهم ما يواجهه.
والبداية الصحيحة في العلاج تبدأ من الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في قوله تعالى:
(وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) الشورى/٣٠، فتغيير كل واقع إنما ينطلق من أصحاب الشأن، وليس من غيرهم، وينطلق فقط حين يتفهمون أن التغيير يبدأ من أنفسهم، وليس من غيرهم.
فلا بد – أختي الفاضلة – أن تتلمسي مواضع الخلل ومكامن النقص في تعاملك مع أسرتك، وتعملي على علاجها أو لنقل – تغييرها -، ولا نقول هذا تجاوزا، إذ ليس بالضرورة أن يكون هذا الخلل سوء خلق منك – لا قدر الله -، لكنه قد يكون خطأ في طريقة التعاطي مع المشكلة والتعامل مع الواقع، وأستطيع مما ذكرت في السؤال التنبيه على شيء من ذلك:
- دائرة المندوبات والمستحبات لا ينبغي أن تجعل مثار شقاق ونزاع، فإن أمر إصلاح ذات البين وتأليف القلوب أعظم من مصلحة فعل تلك المستحبات، فإن كنت تسببت في بعض النزاع لإصارك على القيام بأمور غاية أمرها الندب، فأرجو أن تراجعي مواقفك تلك.
- متابعة الوالدة مصروفات ابنتها ومحاولة ضبطها أمر محمود، والجانب السلبي فيه فقط هو المبالغة في ذلك، وأظن أن هذا الفهم لسياق المشكلة أكثر موضوعية من وضعها في سياق التجبر والتسلط!
- الانفعال السريع والغضب أساس كل مشكلة، ولن يقود إلى علاج أبدا، من أراد تحصيل ما يتمنى فلا بد أن يكتم في قلبه بعض سهام الظلم أو الأذى.
عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ جُرعَةٍ أَعظَمُ أَجرًا عِندَ اللَّهِ مِن جُرعَةِ غَيظٍ كَظَمَهَا عَبدٌ ابتِغَاءَ وَجهِ اللَّهِ) رواه ابن ماجه (٤١٨٩) وحسنه العراقي في " تخريج الإحياء " (٤ / ١٦٣) .
ويمكنك الاستفادة من الأجوبة التالية في علاج سرعة الغضب (٦٥٨) و (٤٥٦٤٧) .
وأظنك تملكين – والحمد لله – بعض المفاتيح التي يمكن أن تخفف عنك ما أهمك، فقد أنعم الله عليك بالوظيفة، والمال يأسر القلوب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تَهَادُوا تَحَابُّوا) .
رواه البخاري في " الأدب المفرد " (٢٠٨) وحسَّنه العراقي في " تخريج الإحياء " (٢ / ٥٣) وابن حجر في " بلوغ المرام " (٢٧٧) والألباني في " صحيح الأدب المفرد ".
وبالهدية يمكن أن تتملكي قلب والدك ووالدتك وأختك، وراوحي بين أنواع الهدايا: عينية أو نقدية أو بعض أثاث المنزل أو رحلة سياحية إلى مكان جميل، وسيكون لذلك أثر عظيم في نفوسهم إن شاء الله.
وأختك مفتاح حل آخر، إذ يمكنك التفاهم معها والتقرب والتحبب إليها، لتكون عونا لك على ما تواجهين، وخسارتك لها يعني فشلك أنت في ذلك، فلا تحاولي أن تضعي اللوم عليها هي أيضا – وإن كان ذلك هو الواقع – ولكن حين يتهم المرء طريقته فإنه سيسعى حتما لتغييرها إلى الملائم والمناسب، وهنا يكون العلاج.
واعلمي – أختي الفاضلة – أن قلب الوالدة يظل ينبض بالشفقة والرأفة على ولده، مهما أظهر من قسوة وشدة، فحاولي أن تستخرجي كل رحمة في قلب والدتك، بالتحبب والتذلل والمسامحة والمصابرة، ولا أظنك إذا ارتميت في حجر والدتك وقبلت يدها واختلطت دموعك بكلماتك في حبها وشكوى تعب الحياة وألمها إليها: فلا أظنك ترجعين خائبة، بل أرجو أن تعود والدتك خيراً مما كنت تظنين.
يقول الله عز وجل: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فصلت/٣٤.
وقد جاء في وصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِن يَعفُو وَيَغفِر) رواه البخاري (٢١٢٥) .
وأولى من يعامل بالحسنى ويقابل بالمسامحة هما الوالدان، لما فرض الله لهما من حق عظيم، حتى قال سبحانه وتعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) الإسراء/٢٤.
والخُلُق الحسن يقتضي تحمل الظلم والأذى من الأحبة، فكيف بالوالدين؟!!
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " المؤمن ملجم بلجام، فلا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يجد طعم الذل ".
وخطب علي بن أبي طالب في أصحابه فقال: (كونوا في الناس كالنحلة في الطير، فإنه ليس شيء من الطير إلا يستضعفها، ولو يعلم ما في أجوافها لم يفعل، خالقوا الناس بأخلاقكم وألسنتكم، وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم، فإن لامرئ ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب) .
وعن محمد بن الحنفية قال: (ليس بحليم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بُدّاً حتى يجعل الله له فرجا - أو قال: مخرجاً -)
روى هذه الآثار ابن أبي الدنيا في كتابه " مداراة الناس " (٣٧، ٢٧، ٤١) .
كن كالنخيل عن الأضغان مرتفعا يرمى بطوب، فيلقي أطيب الثمرِ
والمهم – أختي الفاضلة – أن تسعي في تغيير الأساليب التي اعتدت عليها في مخاطبة ومحاورة والدتك، وأن تتفكري في كل فكرة ممكنة تكون منفذا لقلبها، ولا تعجزي أبداً، ولا تقولي حاولت وأسقط في يدي، واستعيني بالله سبحانه وتعالى أولاً وآخراً.
وأخيراً:
لن يكون سوء معاملة والدتك لك نهاية المطاف أبدا، فالدنيا مليئة بالفرص الطيبة، ومليئة بالخيِّرين من أقارب وجيران وأصحاب، يعيش المرء معهم أيامه، ويطوي بقربهم عمره، يحسن إلى الناس كافة، ويخالقهم بخلق حسن، وهذه أعظم رسالة يحملها المسلم في حياته.
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ مِن أَحَبِّكُم إِلَيَّ وَأَقرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَومَ القِيَامَةِ أَحَاسِنُكُم أَخلَاقًا) رواه الترمذي (٢٠١٨) وقال: حسن غريب، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
سئلت اللجنة الدائمة:
السائل يعيش مع والديه في منزل واحد، لكنه دائم الخصومة مع أمه والقطيعة لوالده، وسبب ذلك أن أمه تفضل أخاه الصغير، فتصفه بأقبح الأوصاف، وتشتمه بأقذع الشتائم ولأتفه الأسباب، فصارت عنده عقد نفسية، وتتسامح مع أخيه، ولو أساء أشد إساءة، فصار مدللا خاليا من العقد النفسية، وكذلك والده يسيء إليه كثيرا، لا يرد عليه السلام إلا نادرا، ويضربه أحيانا أمام الناس لأدنى سبب، ولا يضرب أخاه الصغير ولو اشتدت إساءته، فهل يطالب من أساء إليه والداه بما يطالب به سائر الأبناء من البر والصلة، وهل يأثم بإثارة الخصومات مع أنه يجتهد في إبعاد الخصومات، وكثيرا ما يندم بعد وقوعها ويتصدق عنهما دون شعور منهما، فهل يثابان بذلك ويثاب هو أيضا، وهل يخفف ذلك من ذنوبه، مع أن هذه الصدقة قليلة جدّاً؟ .
فأجابت:
قد يكون الوالدان معذوريْن فيما حصل منهما، وقد يكون لديهما اعتبارات في التشديد على واحد من أولادهما دون آخر، ككونه أكبر سنّاً، وأرشد من غيره، فالغلط منه أشد، وكتأديبه ليستقيم فيكون قدوة لإخوانه الصغار، وعلى تقدير إساءتهما لا يجوز للولد أن يقابل سيئتهما بالسيئة، بل يقابلها بالحسنة، عملا بقوله تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فصلت/٣٤، وقوله (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) لقمان/١٥.
فأمر الولد أن يصاحب والديه بالمعروف ولو جاهداه على أن يشرك بالله غيره، والشرك أكبر الكبائر، وأمره أن يلزم سبيل الله المستقيم، وأخبر بأن جزاء الجميع عنده تعالى يوم القيامة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببر الوالدين، وحذر من عقوقهما وبين أن العقوق من أكبر الكبائر، هذا وتُشكَر على الندم على ما فعلت من إثارة الخصومات والقطيعة، وعلى الصدقة عنهما، ولو أعلنت ذلك لهما كان أرجى إلى الوئام وحنانهما عليك، ويرجى لك ولهما الأجر ومغفرة الذنوب بما قربت من الصدقة عنهما، وإن قَلَّت، فإن الله يضاعف الحسنات، وأما الوالدان فالواجب عليهما تحري العدل بين أولادهما، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) .
" فتاوى اللجنة الدائمة " (٢٥ / ١٢٣ – ١٢٥) .
ونسأل الله أن يوفقكِ ويفتح عليك أبواب رحمته وفضله.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب