النسخ القديمة من المصاحف
[السُّؤَالُ]
ـ[كم الجهود التي يبذلها المسلم للحفاظ على النسخ القديمة للقرآن؟ إن هذا يتطلب بالتأكيد موارد وخبرة في كيفية الحفظ. هناك الكثير من النسخ القديمة للقرآن في مكتبات كثيرة، وفي البيوت، لكنها أصبحت مغبرَّة، وفي حالة سيئة. كيف ينبغي التصرف في هذا الوضع، حيث الرغبة كبيرة للحفاظ على المصحف؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
احترام المصاحف والعناية بها من تعظيم شعائر الله، وتقدير كلام الله تعالى الذي أنزله هداية للعالمين واجب على جميع المسلمين، ينبغي بذل كل الجهود الممكنة في سبيله.
وتقدير حجم هذه الجهود يتفاوت بحسب الحاجة إلى حفظ المصاحف القديمة، فقد تكون نسخ المصاحف قليلة، والناس بحاجة إلى جميع ما بين أيديهم، كما قد تكون هذه النسخ القديمة ما تزال متماسكة صالحة للقراءة والنظر، أو قد يكون من الممكن إرسالها إلى بعض بلاد المسلمين الفقيرة التي ما يزال أهلها ينسخون المصاحف بأيديهم لشدة فقرهم، ونحو ذلك من الأمور التي تقتضي الاستمرار في حفظ النسخ القديمة والعناية بها إلى أقصى درجة.
فإن لم تقم هذه الحاجات لحفظ النسخ القديمة، فلا بأس من الشروع في إفنائها بالطريقة المكرمة التي تحقق المقصود، وقد ذكر العلماء طرقا ثلاثة لذلك:
الطريقة الأولى: الحرق: يعني حرق النسخ القديمة من المصاحف برفق وعناية في مكان طاهر آمن، مع التأكد من اختفاء كلماته بالحرق وتغير أوراقه.
وقد استأنس العلماء لهذا بما فعله عثمان رضي الله عنه في المصاحف المخالفة لما أجمع عليه الصحابة، فقد روى البخاري رحمه الله (حديث رقم/٤٩٨٧) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه: (أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَسَخُوهَا فِى الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ)
قال ابن بطال رحمه الله:
" في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار، وأن ذلك إكرام لها، وصَوْن عن وطئها بالأقدام، وقد أخرج عبد الرزاق من طريق طاووس أنه كان يحرق الرسائل التي فيها البسملة إذا اجتمعت، وكذا فعل عروة، وكرهه إبراهيم " انتهى. "فتح الباري" (٩/٢٠)
ويقول الخطيب الشربيني الشافعي رحمه الله:
" ويُكره إحراقُ خشبٍ نُقِشَ بالقرآن، إلا إن قصد به صيانة القرآن فلا يكره، كما يؤخذ من كلام ابن عبد السلام، وعليه يُحمَل تحريق عثمان رضي الله عنه المصاحف " انتهى."مغني المحتاج" (١/١٥٢)
الطريقة الثانية: الدفن: فيختار لها مكانًا طاهرا آمنا من العبث، ويحفر لها حفرة عميقة يغلب على الظن غياب النسخ المدفونة فيها آمادا طويلة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وأما المصحف العتيق، والذي تخرق وصار بحيث لا ينتفع به بالقراءة فيه، فإنه يدفن في مكان يصان فيه، كما أن كرامة بدن المؤمن دفنه في موضع يصان فيه " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (١٢/٥٩٩)
ويقول البهوتي رحمه الله:
" (ولو بلي المصحف أو اندرس دفن، نصا) ذكر أحمد أن أبا الجوزاء بلي له مصحف فحفر له في مسجده فدفنه. وفي البخاري أن الصحابة حرّقته ـ بالحاء المهملة ـ لما جمعوه، وقال ابن الجوزي: ذلك لتعظيمه وصيانته. وذكر القاضي أن أبا بكر بن أبي داود روى بإسناده عن طلحة بن مصرف قال: دفن عثمان المصاحف بين القبر والمنبر، وبإسناده عن طاوس أنه لم يكن يرى بأسا أن تحرق الكتب، وقال: إن الماء والنار خلق من خلق الله " انتهى.
"كشاف القناع" (١/١٣٧)
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (٤/١٤٠) :
" إذا بليت أوراق المصحف وتمزقت من كثرة القراءة فيها مثلا، أو أصبحت غير صالحة للانتفاع بها، أو عثر فيها على أغلاط مِن إهمال مَن كتبها أو طبعها، ولم يمكن إصلاحها، جاز دفنها بلا تحريق، وجاز تحريقها ثم دفنها بمكان بعيد عن القاذورات ومواطئ الأقدام، صيانة لها من الامتهان، وحفظا للقرآن من أن يحصل فيه لبس أو تحريف أو اختلاف بانتشار المصاحف التي طرأت عليها أغلاط في كتابتها أو طباعتها " انتهى.
الطريقة الثالثة: التمزيق والتخريق: ولعل هذه الطريقة هي أسهل الطرق اليوم، فقد وجدت بعض الآلات التي تدخل إليها الأوراق فتفرمها فرما دقيقا بحيث لا تعود كلمات القرآن ولا حتى أحرفه مقروءة، وهي طاهرة ومأمونة ولا تكلف كثيرا من الجهود كما هو الحال في الحرق أو الدفن.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" لا أحد من المسلمين يشك أن القرآن الكريم يجب على المسلم احتامه وتعظيمه ومنع تعرضه للإهانة، وهذه الأوراق الممزقة – من المصحف - والتي لا يمكن أن ينتفع بها بقراءة، له فيها طريقتان:
الطريقة الأولى: أن يدفنها في مكان نظيف طاهر لا يتعرض للإهانة في المستقبل حسب ظن الفاعل.
الطريقة الثانية: أن يحرقها، وإحراقها جائز لا بأس به، فإن الصحابة رضي الله عنهم لما وحدوا المصاحف على حرف قريش في عهد عثمان رضي الله عنه أحرقوا ما سوى هذا الموحد، وهذا دليل على جواز إحراق المصحف الذي لا يمكن الانتفاع به.
ولكني أرى أنه إذا أحرقها فليدقَّها حتى تتفتت وتكون رماداً، ذلك لأن المحروق من المطبوع تبقى فيه الحروف ظاهرة بعد إحراقه، ولا تزول إلا بدقِّه حتى يكون كالرماد.
أما إذا مزقت فتبقى هذه طريقة ثالثة، لكنها صعبة؛ لأن التمزيق لابد أن يأتي على جميع الكلمات والحروف، وهذه صعبة إلا أن توجد آلة تمزق تمزيقاً دقيقاً جداً بحيث لا تبقى صورة الحرف، فتكون هذه طريقة ثالثة، وهي جائزة " انتهى.
"فتاوى نور على الدرب" (شريط/٢٥، وجه ب)
وانظر: "الموسوعة الفقهية" (٢/١٢٣)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب