هل يعذَّب في قبره من تكون حسناته أكثر من سيئاته في الميزان؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أفهم، وأدرك، أن المسلم يمكن أن يُعذَّب في القبر، لكن الذي أريد أن أعرفه هو التالي: نعلم أن الإنسان المسلم سوف توزن أعماله يوم القيامة، فإن رجحت الحسنات على السيئات: فإن الله عز وجل سيغفر لهذا المسلم، أو المسلمة، ويدخله الجنة، سؤالي هو: عندما يكون نفس هذا الإنسان المسلم في القبر , فهل سيعذَّب في قبره على الرغم من أن الله عز وجل سيغفر له يوم القيامة؟ وهل سنُعذب في الآخرة على الرغم من أننا سندخل الجنة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ثبت عذاب القبر ونعيمه عند أهل السنَّة والجماعة، كما جاء ذلك دلت في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وعليه أجمع سلف الأمة.
وبيان ذلك في جواب السؤال رقم: (٣٤٦٤٨) .
وتجد في جواب السؤال رقم: (٤٧٠٥٥) أن الأصل في عذاب القبر ونعيمه أنه على الروح، وقد تتصل الروح بالبدن فيصيبه شيء من العذاب أو النعيم.
وفي جواب السؤالين (٧٨٦٢) و (٢١٢١٢) بيان أن عذاب القبر منه ما يستمر إلى قيام الساعة، ومنه ما ينقطع.
ثانياً:
ينبغي أن يُعْلم أن كثرة الحسنات على السيئات ليست بمنجية صاحبَها من عذاب القبر بذاتها؛ لأن الوعيد المترتب على العذاب في البرزخ، ليس هو الوعيد المترتب على العذاب في نار جهنم، وقد يأتي المسلم بسبب واحد من أسباب العذاب في قبره، فيعذَّب عليها، وله أمثال الجبال من الحسنات.
والميزان الذي توزن به أعمال الناس فيشقى بعده طوائف خفت موازينهم، ويسعد آخرون ثقلت موزاينهم: إنما يكون في آخر المطاف، بعد أن يقطع الناس أشواطاً في مراحل الدار الآخرة.
قال أبو عبد الله القرطبي – رحمه الله -:
والذي تدل عليه الآي، والأخبار: أن من ثقل ميزانه: فقد نجا وسلِم، وبالجنة أيقن، وعلِم أنه لا يدخل النار بعد ذلك، والله أعلم.
" التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة " (ص ٢٧٢) .
والمسلم الذي نفترض كثرة حسناته لو وضعت في الميزان بعد موته مباشرة: لا ينجو من عذاب القبر، إن شاء الله تعذيبه على بعض سيئاته تلك، وليتأمل الأخ السائل المسائل التالية فهي تحل الإشكال الوارد في ذهنه:
١. من كثرت حسناته على سيئاته وأجاب الملَكين في القبر عن أسئلتهم: لا يعني بالضرورة أنه ينجو من عذاب القبر إذا جاء بما يستحق عليه العذاب من سيئاته تلك، وشاء الله أن يعذبه عليها في قبره.
٢. من كثرت حسناته على سيئاته ليس بالضرورة إذا رأى مقعده من الجنة في قبره، أنه لن يعذَّب على ما شاء الله من ذنوبه، وللعلماء في هذا قولان:
الأول: أن من ارتكب سيئات وشاء الله تعذيبه في القبر، وهو في الآخرة من أهل الجنة: أنه يرى مقعده من الجنة باعتبار مآله.
والثاني: أنه ير مقعده من النار باعتبار حاله.
وينظر جواب رقم: (١٢١٦٢٨) فهو مهم.
وعليه:
فإن زيادة حسنات العبد على سيئاته، ليس بمانع من أن يعذب في قبره على بعض ذنوبه التي ورد الوعيد لفاعلها بالعذاب في قبره. مثل عقوبة المرابي وأنه يسبح في نهر دم، وعقوبة الزناة والزانيات، والعقوبة على النميمة، والغلول من الغنائم، والكذب، وعدم الاستبراء من البول، وغير ذلك مما جاءت النصوص واضحة في التنصيص على معاصٍ بعينها.
وانظر تفصيل ذلك في جوابي السؤالين (٤٦٠٦٨) و (٤٥٣٢٥) .
ثالثاً:
ومن حكمة الله تعالى أنه لم يجعل الميزان أول موت العبد؛ ويبدو لنا بعض الحكَم من ذلك نرجو أن تكون موافقة للصواب:
١. أنه يُخفف حِمل السيئات على العاصي بما يصيبه من عذاب القبر؛ تخفيفاً عنه من عذاب جهنم، ولا شك أن ما يصيب العاصي من عذاب القبر أهون عليه مما يصيبه من نار جهنم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
ما يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الآلام التي هي عذاب: فإن ذلك يُكفِّر الله به خطاياه، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا حزَن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله به من خطاياه) .
" مجموع الفتاوى " (٢٤ / ٣٧٥) .
قال رحمه الله:
السبب الثامن: ما يحصل في القبر، من الفتنة، والضغطة، والروعة، فإن هذا مما يكفّر به الخطايا. " مجموع الفتاوى " (٧ / ٥٠٠) .
وانظر جواب السؤال رقم: (٧٨٦١) .
٢. أنه ليس كل مَن جاء بحسنات تبقى معه حتى يدخل بها الجنة، ولا من جاء بسيئات تبقى معه حتى يدخل بسببها النار، فثمة ما يُسمَّى " المقاصة "، وهو أخذ أصحاب الحقوق من حسنات من ظلمهم، أو إلقاء سيئاتهم عليه، كما في حديث " المفلس " الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهذا إنما يكون قبل الميزان.
قال أبو عبد الله القرطبي – رحمه الله -:
وأما المخلِّطون: فحسناتهم توضع في الكفة النيرة، وسيئاتهم في الكفة المظلمة، فيكون لكبائرهم ثقل؛ فإن كانت الحسنات أثقل، ولو بصؤابة – وهي بيضة القَمْل -: دخل الجنة، وإن كانت السيئات أثقل، ولو بصؤابة: دخل النار، إلا أن يغفر الله، وإن تساويا: كان من أصحاب الأعراف، هذا إن كانت الكبائر فيما بينه وبين الله، وأما إن كانت عليه تبعات، وكانت له حسنات كثيرة: فإنه ينقص من ثواب حسناته بقدر جزاء السيئات؛ لكثرة ما عليه من التبعات، فيحمل عليه مِن أوزار مَن ظلمه، ثم يعذب على الجميع، هذا ما تقتضيه الأخبار.
" التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة " (ص ٢٦٩، ٢٧٠) .
٣. أنه لم تنقطع الحسنات، ولا السيئات بالموت، بل ثمة " حسنات جارية "، و " سيئات جارية "، فالأول: كمن تصدَّق بصدقة جارية، أو علَّم علماً نافعاً، أو دلَّ غيره على عمل صالحٍ، أو كان له ذرية يعملون بعد موته بطاعات، وكل ذلك مما يجعل للميت مجالاً لزيادة الحسنات، وأما الثاني: فهو لمن دلَّ غيره على عمل فاسد، أو ابتدع بدعة، وغير ذلك مما تجري سيئات أعمالهم على فاعلها، وعلى الميت، الذي كان سبباً في فعل تلك السيئات والبدع.
وبه يُعلم أنه ليس بالموت يقف " عدَّاد " الحسنات، والسيئات، ولذا نرى عظيم الحكمة في عدم اعتبار الميزان أول موت المسلم، بل لا يكون ذلك إلا في آخر المطاف، وبعدها يكون دخول الجنة، أو النار، وعندها يمكن للمسلم أن يفهم معنى قوله تعالى (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف/ ٨، وقوله (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) القارعة/ ٦، ٧.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب