للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل يدفع رشوة لطبيب ليحصل على تقرير طبي يعفيه من العمل المحرَّم؟

[السُّؤَالُ]

ـ[مشكلتي تتلخص في كوني قدمت استقالتي من عملي - " الجيش " -؛ وذلك للمحرمات التي فيه، من حلق للحية، والوقوف للضباط، وطاعتهم إجباراً، ولو في معصية الله، وعدم الأمر المعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من المحرمات التي لا تخفى عليكم، إلا أن استقالتي رُدت إليَّ، فلم يبق لي سوى طريقتين للخروج وإلَاّ أنتظر ثلاث سنوات أُخر لتنتهي عقدتي، وأخرج بأمان، الطريقة الأولى: الفرار من الجندية، والذي سيترتب عليه سجني، وعدة مفاسد أخرى مع عائلتي، الطريقة الثانية: أن أعطي مبلغاً من المال إلى طبيب عسكري مقابل أن يعطيني شهادة طبية تثبت عدم قدرتي على العمل في الجندية، وبالتالي يقومون بإخراجي، وسيعطوني تقاعداً تبعاً للسبع السنوات التي عملتها معهم، وبعد تضييق الخناق علينا في العمل وإلزامنا بعدة ملزمات كعدم حضور حِلق الذكر وأشياء ما أنزل الله بها من سلطان أستحيي من ذكرها، وحذرونا من فعلها، وبالفعل طردوا أحد إخواننا الملتزمين، وبدؤوا بمطاردة الملتزمين، وذلك ببث الجواسيس، فاضطررت إلى عرض هذه الطريقة على شيخ أثق به فأفتاني بفعلها، فنسألكم أن تفيدونا في الموضوع.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

العمل في الوظائف - سواء الحكومية أو الخاصة – التي يُلزم الموظف فيها بترك واجب شرعي، أو وقوع في معصية: لا يجوز، وقد نوَّع الله تعالى أسباب الرزق وكثَّره، فلا يُعدُّ الموظف معذوراً بقبوله تلك الوظيفة والحال ما ذكرنا.

وإعفاء اللحية واجب شرعي، وحلقها محرم، وقد بيَّنا في جواب السؤال رقم (١١٨٩) حكم حلق اللحية وأن حلقها من المحرمات، وطاعة الله ورسوله تقدَّم على طاعة كل أحد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وقد بيَّنا في جواب السؤال رقم (٥٤٨١) حرمة حلق اللحية حتى بالنسبة لمن أراد أن يعمل طياراً.

وعلى المسلم أن يحرص على الجمع بين الوظيفة الحلال وإعفاء اللحية، فإن كان لا بد من أحد الأمرين فلا يقدِّم وظيفته على أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، و" من ترك شيئا لله عوَّضه الله خيراً منه ".

وقد سئل علماء اللجنة الدائمة: هل يجوز الدخول في أمر يتطلب الدخول فيه حلق اللحية وعدم التمكن من تأدية بعض الصلوات في أوقاتها، وطاعة الأوامر العسكرية فيما حرم الله؟ .

فأجابوا:

" لا يجوز للمسلم أن يدخل في أمر يستلزم هذه الأشياء أو بعضها؛ لأنها معاص لله ورسوله، وإن أجبر بدون اختياره وأدخل بقوة السلطان فالأمر ليس إليه، ونرجو أن يجعل الله له فرجاً ومخرجاً، فهو القائل سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) الطلاق/١-٢، والقائل سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) الطلاق/٤.

وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم " انتهى.

الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن قعود.

"فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء" (١/٥٣٤) .

وفي جواب السؤال رقم (٨٢٣٠) ذكرنا فتوى الشيخ ابن باز في حرمة حلق اللحية لمن يعمل في الجيش، وقال الشيخ - رحمه الله - فيها:

" فإذا كنت في عمل تلزم فيه بحلق لحيتك فلا تطعهم في ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، فإن ألزموك بتركها: فاترك هذا العمل الذي يجرك لفعل ما يغضب الله، وأسباب الرزق الأخرى كثيرة ميسرة ولله الحمد، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه " انتهى.

وفي جواب السؤال رقم (٨٧٩٧) ذكرنا فتوى اللجنة الدائمة، وفيها:

" أولا: يحرم حلق اللحية، ويجب إعفاؤها.

ثانيا: لا تجوز تحية العلم.

ثالثا: يجب الحكم بشريعة الإسلام، والتحاكم إليها، ولا يجوز للمسلم أن يحيي الزعماء أو الرؤساء تحية الأعاجم؛ لما ورد من النهي عن التشبه بهم، ولما في ذلك من الغلو في تعظيمهم " انتهى باختصار.

ثانياً:

يجب على من دخل تلك الوظائف التي يرتكب فيها المعاصي والآثام أن يبادر للخروج منها، وليحتسب ذلك عند ربه تعالى، وقد كان السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم من القرون الفاضلة أكثر الناس التزاماً بالشرع، وتركاً للمحرَّم وإن كان لهم فيه نفع، أو كانت نفوسهم قد ألفته، كما هو حالهم عندما حرَّم الله عليهم الخمر، وعندما أوجب الله على النساء الحجاب الكامل.

١. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أبو عبيدة بن الجراح وسهيل بن بيضاء وأبي بن كعب عند أبي طلحة، وأنا أسقيهم من شرابٍ حتى كاد يأخذ فيهم، فمرَّ بنا مارٌّ مِن المسلمين فنادى: ألا هل شعرتم أن الخمر قد حرمت؟ قال: فوالله ما انتظروا أن أمروني أن أكفِئ ما في آنيتك، ففعلت، فما عادوا في شيء منها حتى لقوا الله) رواه ابن حبان في " صحيحه " (١٢/١٨٤) حديث رقم: ٥٣٦١.

٢. عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا) رواه البخاري (٤٤٨٠) .

والخُمُر: جمع خمار، وهو غطاء الرأس، والجيوب: جمع جيب، وهو فتحة الثوب من ناحية الرأس، والمراد ما يظهر منه الصدر، ومرطوهن: جمع مرط، وهو الإزار، والإزار هو الملاءة، فاختمرن بها: غطين وجوههن بالمروط.

فلا ينبغي التردد في ترك المحرمات، وينبغي المبادرة لفعل الطاعات، وهذه التقوى أحد أسباب الرزق، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) الطلاق/٢،٣.

ثالثاً:

إذا لم يستطع الموظف الخروج من الوظيفة بطرق مباحة سليمة في الأصل، وأرغم على البقاء فيها، فله أن يتوصل إلى الخروج منها بالحيلة، أو التورية، فإن لم ينفع: فيجوز له الرشوة، والكذب، وإثم ذلك على من اضطره إليه، وعلى من أخذ منه المال.

١. أما جواز الرشوة في هذه الحال:

أ. قال ابن الأثير الجزري رحمه الله:

" فالراشي: مَن يُعطي الذي يعينه على الباطل، والمرتشي: الآخذ، والرائش: الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا ويستنقص لهذا، فأما ما يُعطى توصلاً إلى أخذِ حقٍّ أو دفع ظلمٍ: فغير داخل فيه، روي أن ابن مسعود أُخذ بأرض الحبشة في شيءٍ فأَعطى دينارين حتى خُلِّي سبيله، ورُوي عن جماعة من أئمة التابعين قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم " انتهى.

"النهاية في غريب الحديث" (٢/٢٢٦) .

ب. وقال الخطابي رحمه الله:

" إذا أَعطى ليتوصل به إلى حقه، أو يدفع عن نفسه ظلماً: فإنه غير داخل في هذا الوعيد [يعني: لعن الراشي] " انتهى.

"معالم السنن" (٥/٢٠٧) .

وانظر تفصيلاً أوفى في جوابي السؤالين: (٦٠١٨٣) و (٧٢٢٦٨) .

٢. وأما جواز الكذب:

قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله:

" واعلم أن الكذب قد يباح، وقد يجب، والضابط - كما في " الإحياء " -: أن كل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً: فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل بالكذب وحده: فمباح إن أبيح تحصيل ذلك المقصود، وواجب إن وجب تحصيل ذلك " انتهى.

"الزواجر عن اقتراف الكبائر" (٢/١٩٦) .

رابعاً:

أما التقاعد الذي سيعطونك إياه في هذه الحالة، فإن كنت غير محتاج إليه، فالأولى لك التصدق به، وإن كنت محتاجا فنرجو أن لا يكون عليك حرج من الانتفاع به، ويكون عوناً لك على الاستقامة والتوبة من هذا العمل المحرم.

ونسأل الله تعالى أن ييسر لك الخير حيث كان.

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>