الحكمة من التوجه للكعبة
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو أن تتمكن من مساعدتي، لقد أسلمت منذ عامين، وعائلتي تجد أنه من الصعب عليها أن تقبل بالعبادات التي أمارسها، وقد أثرت مشكلة مؤخراً بسبب الصلاة، وأصررت على تأديتها، وقد قبلتْ عائلتي أن أصلِّي، والحمد لله، بعد أن شاهد أفرادها أني أصبحت منزعجة وأصبت بالأرق لأني أعيش في بيت لا يُسمح أفراده لي بتأدية أركان الإسلام الأساسية، وهم - ولله الحمد - يسألونني أسئلة، منها: " لماذا نتوجه – نحن المسلمين - إلى الكعبة، إن كنا لا نعبدها، حيث أننا نسجد في اتجاهها؟ "، وقد حاولت أن أشرح لهم أننا نسجد لله وليس للكعبة، وأن الكعبة هي لأسباب التوحد، ولأن (الحرم) هو أول بيت لله.
وسأكون مقدرة إذا ساعدتني في شرح المسألة بشكل مفصَّل، حتى أحيط بها أنا شخصيّاً، وأشرح ذلك لأفراد عائلتي ولغيرهم من الكفار، كما أرجو منك أن تدعو بأن يهديهم الله الصراط المستقيم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وبعد: فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، ونسأله أن يثبتنا عليه حتى نلقاه إنه سميع مجيب، والحمد لله الذي وفقك أيتها الأخت المسلمة على الحرص على صلاتك، وإظهار شعائر دينك، ونسأل الله أن يهدي أهلك ويقر عينك بإسلامهم..آمين
أما بالنسبة لتوجهنا ـ نحن المسلمين للكعبة ـ؛ فاعلمي وفقك الله لهداه: أن هذا الكون ليس فيه إلا خالق ومخلوق، وعابد ومعبود، فالخالق والمعبود بحقٍّ هو الله وحده، وما سواه فهو مخلوق عابدٌ إما طوعاً واختياراً - وهو حال أهل الإيمان - أو قهراً وهو حال أهل الكفر والعصيان، وعبوديتهم لله هي خضوعهم لتصرفه بهم، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فالله هو الذي أحياهم ومتى شاء أماتهم، وإن شاء الله أمرضهم، وإن شاء شفاهم، ويُغنيهم سبحانه متى شاء، ويفقرهم متى شاء، فسبحانه وبحمده لا رب سواه ولا معبود إلا إيَّاه.
أما عباده المؤمنون فهم مختَبرون ممتحنون في هذه الدنيا القصيرة الفانية، فإن نجحوا وأفلحوا في إثبات عبوديتهم لربهم وإظهار أعلى درجات الخضوع له سبحانه: عوَّضهم عن ذلك ـ بكرمه وفضله ـ جنات عظيمة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ومن أنواع هذه الامتحانات: أن يأمرهم بأشياء لا تستطيع عقولهم معرفة الحكمة منها إلا التسليم والطاعة وهذا ليتبين الصادق في دعوى الإيمان من الكاذب، فهو سبحانه خالق العقل، وهو الذي أمر بالأمر، فمن استجاب وخضع وقال: سمعت وأطعت وإن لم أفهم الحكمة والعلة؛ لأني مقر ببشريتي وضعفي وعبوديتي لله؛ والله سبحانه لا يُسأل عما يفعل: فهو المؤمن الذي يرجى له الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.
وهذا هو حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري (١٥٩٧) ومسلم (١٢٧٠) في " صحيحيهما " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال عن الحجر الأسود وهو يقبِّله: " والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبّلتك "، فنحن المسلمين حين نصلِّي لجهة الكعبة نصلي إليها لأن الله أمرنا بذلك، ولو أمرنا بالصلاة إلى غيرها لفعلْنا ولا بد، وهكذا في كثير من العبادات فنصلي الظهر أربعاً والمغرب ثلاثاً والفجر ركعتين؛ لأن الله أمرنا بذلك، ونحن نطوف بالبيت سبعاً، ونرمي الجمار سبعاً ولا يجوز لنا أن نزيد على ذلك بحال، كل هذا لأن الله أمرنا بذلك.
وهكذا فمن كان يستشعر هذه المعاني وهو يؤدِّي مثل هذه العبادات فستزداد عبوديته لله ولا بد، وهذا يزيده إيماناً وقرباً من ربِّه فيجد في قلبه لذةً عظيمةً وسعادةً غامرةً وراحةً بالغةً تجعله يشتاق إلى العبادة ويحبُّها؛ لأنه يستشعر حين يؤدِّي العبادة أنَّه يؤدِّيها لله ولولا الله ما أداها، فتصبح كلُّ عبادةٍ تقربه من ربه وتزيد في إيمانه حتى يلقى الله فيكرمه بما يُكرم به عباده الصالحين.
وأما مَن عاند واستكبر وقال لا أفعل حتى أفهم: فهذا فيه شبه من إبليس حين اعترض على الله فقال كما حكى الله عنه في القرآن {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} الإسراء/٦١، وهذا يكفي في بيان خطورة معاندة الشرع بالعقل، بل إنَّ الله سبحانه جعل مِن أخصِّ صفات المؤمنين المتقين الإيمان بالغيب، فقال سبحانه {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} البقرة /٢، ٣، فجعل أول صفةٍ تميِّز المؤمنين عن غيرهم أنهم يؤمنون بما يغيب عن إدراكهم سواء كان هذا الإدراك بالحس أو بالعقل.
ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أن صلاتنا تجاه الكعبة لا علاقة لها ببناء الكعبة، إنما بمكانه، وعليه: فلو فُرضَ هدمُها فإن الصلاة باقية لاتجاهها لا لبنائها.
ولذلك نجد المسلمين يصلون الآن في الطابق الثاني وفي السطح في حرم الله إلى جهة الكعبة ولو لم يكن البنيان أمامهم في المستوى وهكذا يفعل الملايين من المسلمين في العالم يصلُّون لاتجاه الكعبة وهم لا يرونها وهنا يتبين فارقٌ كبيرٌ بين تشريع الإسلام وبين فِعل المشركين الذين تزول عباداتهم لأصنامهم وأحجارهم وأشجارهم بزوالها، فالمشرك إذا لم يَر معبوده وصنمه لم يتوجه إليه.
نسأل الله أن يرزقنا الإيمان الصادق، وأن يثبتنا عليه حتى نلقاه.. آمين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد