هل تجوز له الهجرة إلى أوربا إذا لم يستطع إظهار دينه في بلده؟
[السُّؤَالُ]
ـ[في بلدنا تمنع السلفية ويمنع التمسك بالأحكام الشرعية كاللحية وتقصير الثياب والصلاة في المسجد وخاصة الفجر والكلام بما يخالف المذهب المعمول به هنا وغير ذلك أريد أن أسأل عن الهجرة شروطها ومتى تجب؟ وما هي الأماكن التي يهاجر إليها والتي لا يهاجر إليها؟ وهل تجوز الهجرة إلى أوروبا وأمريكا؟ كما أن البلدان العربية والإسلامية لا تسمح بالهجرة إليها.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
ذكر أهل العلم أن من أقسام الهجرة المشروعة: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة إلى دار السنة، ومن الأرض التي يغلب عليها الحرام، والهجرة فرارا من الأذى في البدن أو المال أو الأهل.
قال ابن العربي المالكي رحمه الله: " الهجرة وهي تنقسم إلى ستة أقسام:
الأول: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرها من أنواعها، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان.
الثاني: الخروج من أرض البدعة، قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم ببلد يسب فيها السلف.
وهذا صحيح، فإن المنكر إذا لم يقدر على تغييره نزل عنه، قال الله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) الأنعام/٦٨.
وقد كنت قلت لشيخنا الإمام الزاهد أبي بكر الفهري: ارحل عن أرض مصر إلى بلادك فيقول: لا أحب أن أدخل بلادا غلب عليها كثرة الجهل وقلة العقل، فأقول له: فارتحل إلى مكة أقم في جوار الله وجوار رسوله، فقد علمت أن الخروج عن هذه الأرض فرض لما فيها من البدعة والحرام، فيقول: وعلى يدي فيها هُدَى كثير وإرشاد للخلق وتوحيد وصد عن العقائد السيئة ودعاء إلى الله عز وجل.
الثالث: الخروج عن أرض غلب عليها الحرام؛ فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم.
الرابع: الفرار من الإذاية في البدن، وذلك فضل من الله عز وجل أرخص فيه، فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور، وأول من حفظناه فيه الخليل إبراهيم عليه السلام لما خاف من قومه قال: (إني مهاجر إلى ربي) العنكبوت/٢٦، وقال: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) الصافات/٩٩ وموسى قال الله سبحانه فيه: (فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين) القصص/٢١.
الخامس: خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للرعاء حين استوخموا المدينة أن يتنزهوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا، وقد استثني من ذلك الخروج من الطاعون فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
السادس: الفرار خوف الأذية في المال، فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله أو آكد " انتهى من "أحكام القرآن" (١/٦١١) باختصار. ولا شك أن هذه المقاصد متفاوتة في الحكم بحسب حال الشخص، فقد تجب وقد تستحب.
والمتحصل من كلام أهل العلم أن الهجرة تجب على من عجز عن إظهار دينه، واستطاع الهجرة. وأما من قدر على إظهار دينه، فلا تجب عليه الهجرة، وكذلك من عجز عن إظهار دينه وعجز عن الهجرة، فقد عذره الله تعالى.
قال ابن قدامة رحمه الله مبينا أصناف الناس في حكم الهجرة: " فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها: من تجب عليه , وهو من يقدر عليها , ولا يمكنه إظهار دينه , ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار , فهذا تجب عليه الهجرة ; لقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) . وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب. ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه , والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته , وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الثاني: من لا هجرة عليه. وهو من يعجز عنها , إما لمرض , أو إكراه على الإقامة , أو ضعف ; من النساء والولدان وشبههم , فهذا لا هجرة عليه ; لقول الله تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) . ولا توصف باستحباب ; لأنها غير مقدور عليها.
والثالث: من تستحب له , ولا تجب عليه. وهو من يقدر عليها , لكنه يتمكن من إظهار دينه , وإقامته في دار الكفر , فتستحب له , ليتمكن من جهادهم , وتكثير المسلمين , ومعونتهم , ويتخلص من تكثير الكفار , ومخالطتهم , ورؤية المنكر بينهم. ولا تجب عليه ; لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة. وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع إسلامه ". انتهى من "المغني" (٩/٢٣٦) .
ثانيا:
علم مما تقدم أنه إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه، فإنه تجب عليه الهجرة عند القدرة، فإن لم يستطع لعجزه أو مرضه أو عدم وجود جهة تسمح بانتقاله إليها، فهو معذور، وفرضه أن يتقي الله ما استطاع، ويجتهد في أداء ما يستطيعه من أمور دينه؛ قال الله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) البقرة/٢٨٦، وقال: (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) الأنعام/١٥٢.
وإذا لم توجد بلد يمكن فيها إظهار الدين كاملا – ممن تسمح بالهجرة إليها -، فإنه يُبحث عن الأمثل فالأمثل، وهذا من تقوى الله تعالى، وامتثالِ أوامره، وفعلِ الممكن المستطاع.
ثالثا:
إذا لم توجد دولة إسلامية يمكن الانتقال إليها، وكان العيش في أوروبا أو أمريكا، مما يمكّن المسلم من إظهار دينه، أو ينجو فيه من الأذى المتوقع على بدنه أو أهله أو ماله، بحيث يكون العيش فيها آمن من العيش في بلده الأصلي، فلا حرج في ذلك، على أن يقتصر على الإقامة دون أخذ الجنسية، لما يترتب على أخذها من محظورات كبار، وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء سؤالا نصه:
كثير من المسلمين الذين يقدمون إلى هذه الديار ينوون الإقامة وكذلك يحصلون على الجنسية الأمريكية فهل يجوز لهم ذلك علما بأنها ديار كفر وشرك وانحلال فكيف يعطون ولاءهم لحكومتها بالتنازل عن جنسية بلادهم الإسلامية وقبول جنسية هذه البلاد فما حكم الإسلام في ذلك علما بأنهم يبررون ذلك بنشر الإسلام؟
فأجابت: "لا يجوز لمسلم أن يتجنس بجنسية بلاد حكومتها كافرة، لأن ذلك وسيلة إلى موالاتهم والموافقة على ما هم عليه من الباطل.
أما الإقامة بدون أخذ الجنسية فالأصل فيها المنع لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرا. إلا المستضعفين ... ) النساء/٩٧، ٩٨.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا برئ من كل مسلم يقيم بين المشركين) ولأحاديث أخرى في ذلك، ولإجماع المسلمين على وجوب الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام مع الاستطاعة. لكن من أقام من أهل العلم والبصيرة في الدين بين المشركين لإبلاغهم دين الإسلام ودعوتهم إليه، فلا حرج عليه إذا لم يخش الفتنة في دينه، وكان يرجو التأثير فيهم وهدايتهم "انتهى".
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي..... عبد الله بن قعود
"فتاوى اللجنة الدائمة" (٢/٦٩) .
وجوَّزَ بعض أهل العلم أخذ الجنسية في حالة الاضطرار، كالمطارد الذي لا يجد مأوى إلا في هذه البلاد، قال الشيخ ابن جبرين حفظه الله: " من اضطر إلى طلب جنسية دولة كافرة كمطارد من بلده ولم يجد مأوى فيجوز له ذلك بشرط أن يظهر دينه ويكون متمكنا من أداء الشعائر الدينية، وأما الحصول على الجنسية من أجل مصلحة دنيوية محضة فلا أرى جوازه.
والله أعلم" وللأهمية يراجع جواب السؤال رقم (١٣٣٦٣)
نسأل الله تعالى أن يظهر دينه، ويعلي كلمته، ويحفظنا وإياكم والمسلمين بحفظه.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب