[المقدمة]
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إله الأولين والآخرين وقيوم السموات والأرضين والصلاة والسلام على نبيه الأمين معلّم الخلق المبعوث رحمة للعالمين وبعد:
فإن تعليم الناس من القربات العظيمة التي يتعدّى نفعها ويعمّ خيرها، وهي حظ للدعاة والمربين من ميراث الأنبياء والمرسلين " وإِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ " رواه الترمذي: سنن الترمذي ط. أحمد شاكر رقم ٢٦٨٥ وقَالَ أبو عيسى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ، والتعليم طرائق وأنواع وله وسائل وسُبُل ومنها تصحيح الأخطاء، فالتصحيح من التعليم وهما صنوان لا يفترقان.
ومعالجة الأخطاء وتصحيحها من النصيحة في الدين الواجبة على جميع المسلمين. وصلة ذلك بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوية وواضحة. مع ملاحظة أن دائرة الخطأ أوسع من دائرة المنكر فالخطأ قد يكون منكرا وقد لا يكون.
وتصحيح الأخطاء كذلك من الوحي الرباني والمنهج القرآني فقد كان القرآن ينزل بالأوامر والنواهي والإقرار والإنكار وتصحيح الأخطاء حتى مما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت معاتبات وتنبيهات كما في قوله تعالى: (عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى، فأنت له تصدى، وما عليك ألا يزكى، وأما من جاءك يسعى، وهو يخشى، فأنت عنه تلهى) ، وقوله: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) ، وقوله: (ما كان للنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم) وقوله: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون)
وكان القرآن يتنزل ببيان خطأ أفعال بعض الصحابة في عدد من المواقف. فلما أخطأ حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه خطأ عظيما في مراسلة كفار قريش مبينا لهم وجهة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في الغزو، نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) .
وفي شأن خطأ الرماة في غزوة أحد لما تركوا مواقعهم التي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزومها نزل قوله تعالى: (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) .
ولما اعتزل النبي صلى الله عليه زوجاته تأديبا وأشاع بعض الناس أنه طلّق نساءه نزل قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)
ولما ترك بعض المسلمين الهجرة من مكة إلى المدينة لغير عذر شرعي أنزل الله: (إن الذين توفَّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ... الآية)
ولما انساق بعض الصحابة وراء إشاعات المنافقين في اتهام عائشة بما هي منه بريئة أنزل الله آيات في هذا الإفك وفيها: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم، إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم) ثم قال: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين)
ولما تنازع بعض الصحابة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وارتعت أصواتهم نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم، يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)
ولما جاءت قافلة وقت خطبة الجمعة فترك بعض الناس الخطبة وانفضوا إلى التجارة نزل قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين)
إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على أهمية تصحيح الأخطاء وعدم السكوت عنها.
وسار النبي صلى الله عليه وسلم على نور من ربه سالكا سبيل إنكار المنكر وتصحيح الخطأ غير متوان في ذلك، ومن هذا وغيره استنبط العلماء رحمهم الله تعالى قاعدة: " لا يجوز في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم تأخير البيان عن وقت الحاجة ".
وإدراك المنهج النبوي في التعامل مع أخطاء البشر الذين لاقاهم النبي صلى الله عليه وسلم من الأهمية بمكان لأنه صلى الله عليه وسلم مؤيد من ربّه، وأفعاله وأقواله رافقها الوحي إقرارا وتصحيحا فأساليبه عليه الصلاة والسلام أحكم وأنجع واستعمالها أدعى لاستجابة الناس، واتباع المربي لهذه الأساليب والطرائق يجعل أمره سديدا وسلوكه في التربية مستقيما. ثمّ إن اتباع المنهج النبوي وأساليبه فيه الاتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أسوة حسنة لنا ويترتب على ذلك حصول الأجر العظيم من الله تعالى إذا خلصت النية.
ومعرفة الأساليب النبوية تبين فشل أساليب المناهج الأرضية ـ التي تزخر بها الآفاق ـ وتقطع الطريق على اتّباعها، فإن كثيرا منها واضح الانحراف وقائم على نظريات فاسدة كالحرية المطلقة أو مستمد من موروثات باطلة كالتقليد الأعمى للآباء والأجداد.
ولابدّ من الإشارة إلى أن التطبيق العملي لهذا المنهج النبوي في الواقع يعتمد على الاجتهاد بدرجة كبيرة وذلك في انتقاء الأسلوب الأمثل في الظرف والحدث الحاصل، ومن كان فقيه النفس استطاع ملاحظة الحالات المتشابهة والأحوال المتقاربة فينتقي من هذه الأساليب النبوية ما يلائم ويوائم.
وهذا الكتاب محاولة لاستقراء الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس على اختلاف مراتبهم ومشاربهم ممن عايشهم صلى الله عليه وسلم وواجههم، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب فيه التوفيق وإصابة الصواب والنفع لي ولإخواني المسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو الهادي إلى سواء السبيل.