التهرب من تولي القضاء!!
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا يأبى كثير من العلماء في الماضي والحاضر تولي مهنة القضاء، مع أنهم مؤهلون لذلك؟ هل في هذا نص أو أثر؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
منصب القضاء منصب شريف، وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به، وقد قام الأنبياء عليهم السلام، وبعض كبار الصحابة رضي الله عنهم، وبعض الأعلام من التابعين فمن بعدهم، فبالقضاء العادل أمرٌ بالمعروف، ونهي عن المنكر، ونصرة للمظلوم.
قال محمد الخادمي – رحمه الله -:
علم القضاء من أجل العلوم قدراً، وأعزهاً مكاناً، وأشرفها ذِكراً؛ لأنه مقام عليٌّ، ومنصب نبوي، به الدماء تُعصم وتُسفح، والأبضاع تُحرَّم وتُنكَح، والأموال يثبت مِلكها ويسلب، والمعاملات يُعلم ما يجوز منها ويَحرم ويُكره ويُندب، والدليل على أن علم القضاء ليس كغيره (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) الآية، ومنه بُعثَ الرسلِ، وبالقيام به قامت السموات والأرض، وجعله عليه الصلاة والسلام من النِّعَم التي يُباح الحسد عليها بقوله (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعمل بها) ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: " لأن أقضي يوماً أحب إليَّ من عبادة سبعين سنة "، فلذلك كان العدل بين الناس من أفضل أعمال البر وعليِّ درجات الآخرة، قال الله تعالى (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين) ، فأي شيء أشرف من محبة الله.
" بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية " (٤ / ٢، ٣) .
وقال ابن قدامة – رحمه الله -:
وفيه فضل عظيم لِمن قَوِىَ على القيام به، وأداء الحق فيه، ولذلك جعل الله فيه أجراً مع الخطأ، وأسقط عنه حكم الخطأ، ولأن فيه أمراً بالمعروف، ونصرة للمظلوم، وأداء الحق إلى مستحقه وردعاً للظالم عن ظلمه، وإصلاحاً بين الناس، وتخليصاً لبعضهم من بعض، وذلك من أبواب القرب.
ولذلك تولاه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله، فكانوا يحكمون لأممهم.
وبعث صلى الله عليه وسلم عَلِيّاً إلى اليمن قاضياً، وبعث مُعَاذاً قاضياً.
وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: لأنْ أجلس قاضياً بين اثنين أحب إليَّ من عبادة سبعين سنة.
" المغني " (١١ / ٣٧٦) .
وفي " الموسوعة الفقهية " (٣٣ / ٢٨٩) :
ولعلوّ رتبته وعظيم فضله جعل الله فيه أجراً مع الخطأ، وأسقط عنه حكم الخطأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) – متفق عليه - وإنما أُجِر على اجتهاده، وبذْل وسعه، لا على خطئه.
انتهى
ثانياً:
تولي القضاء قد يكون واجباً، وقد يكون مباحاً، وقد يحرم: فيحرم على من تولاه وهو جاهل بأحكام الشريعة، ويباح لمن كان يحسن القضاء ويوجد غيره يقوم به، ويجب على من يحسنه ولا يوجد غيره ليحكم بين الناس ويقضي بينهم.
قال ابن قدامة – رحمه الله -:
والناس في القضاء على ثلاثة أضرب:
١. منهم: من لا يجوز له الدخول فيه، وهو من لا يحسنه، ولم تجتمع فيه شروطه، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (القضاة ثلاثة) – ذكر منهم رجلا قضى بين الناس بجهل فهو في النار -؛ ولأن من لا يحسنه لا يقدر على العدل فيه فيأخذ الحق من مستحقه فيدفعه إلى غيره.
٢. ومنهم: من يجوز له، ولا يجب عليه، وهو من كان من أهل العدالة والاجتهاد، ويوجد غيره مثله، فله أن يلي القضاء بحكم حاله وصلاحيته، ولا يجب عليه؛ لأنه لم يتعين له، وظاهر ككلام أحمد أنه لا يستحب له الدخول فيه؛ لما فيه من الخطر والغرر، وفي تركه من السلامة؛ ولما ورد فيه من التشديد والذم؛ ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي، وقد أراد عثمان رضي الله عنه تولية ابن عمر القضاء فأباه، وقال أبو عبد الله بن حامد: إن كان رجلا خاملا لا يُرجع إليه في الأحكام ولا يُعرف: فالأولى له توليه ليرجع إليه في الأحكام، ويقوم به الحق، وينتفع به المسلمون، وإن كان مشهوراً في الناس بالعلم، يُرجع إليه في تعليم العلم والفتوى: فالأولى الاشتغال بذلك؛ لما فيه من النفع، مع الأمن من الغرر، ونحو هذا قال أصحاب الشافعي، وقالوا – أيضاً -: إذا كان ذا حاجة، له في القضاء رزق: فالأولى له الاشتغال به، فيكون أولى من سائر المكاسب؛ لأنه قربة وطاعة....
الثالث: من يجب عليه، وهو من يصلح للقضاء، ولا يوجد سواه: فهذا يتعين عليه؛ لأنه فرض كفاية، لا يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه، كغسل الميت وتكفينه.
وقد نُقل عن أحمد ما يدل على أنه لا يتعين عليه، فإنه سئل: هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره؟ قال: لا يأثم.
فهذا يحتمل أنه يحمل على ظاهره في أنه لا يجب عليه؛ لما فيه من الخطر بنفسه، فلا يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره، ولذلك امتنع أبو قلابة منه، وقد قيل له ليس غيرك، ويحتمل أن يحمل على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره فإنَّ أحمد قال: لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟ .
" المغني " (١١ / ٣٧٦) .
وبعض أهل العلم أجرى الأحكام الخمسة في القضاء، وهي التحريم والإيجاب والندب والكراهة والإباحة.
انظر: " معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام " للشيخ علاء الدين الطرابلسي – رحمه الله - (ص ١٠) .
ثالثاً:
لبعض الأئمة أقوال في التحذير من تولي القضاء، وعظم خطر هذا المنصب، ومن ذلك:
١. عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لو يعلم الناس ما في القضاء ما قضوا في ثمن بعرة! ولكن لا بد للناس من القضاء، ومن إمرة، برة أو فاجرة.
" أخبَارُ القُضاة " لأبي بكر الضبي الملقب بـ" وكيع " (ص ٢١) .
٢. عن المعلى بن روبة قال: قال لي رجاء بن حيوة: ولَّى الأميرُ اليوم عبدَ الله بن موهب القضاءَ، ولو اخترت بين أن أحمل إلى حفرتي وبين ما ولي ابن موهب: لاخترت أن أُحمل إلى حفرتي؛ فقلت له: فإن الناس يتحدثون أنك أنت أشرت به؛ قال: صدِّقوا، لأني نظرت للعامة، ولم أنظر له.
" أخبَارُ القُضاة " (ص ٢٣، ٢٤) .
٣. عن مكحول قال: لأن أقدَّم فتضرب عنقي أحب إلى من أن ألي القضاء.
٤. عن رافع، أن عمر بن هبيرة دعاه ليوليه القضاء؛ فقال: ما يسرني أني وليت القضاء، وأن سواري مسجدكم هذا لي ذهباً.
٥. قال الفضيل بن عياض: إذا ولي الرجل القضاء: فليجعل للقضاء يوماً، وللبكاء يوماً.
٦. عن ابن شبرمة قال: لا تجترئ على القضاء حتى تجرئ على السيف.
" أخبَارُ القُضاة " (ص ٢٤) .
رابعاً:
قد عزف كثير من الأئمة عن تولي القضاء، بل وقبَل بعضهم بالضرب والسجن على توليه، وهرب بعضهم من بلده من أجل أن لا يتولى القضاء، ويمكن إجمال أسباب عزوف أولئك الأئمة عن القضاء بالأسباب التالية:
١. أنه يرى نفسه ليس أهلاً للقضاء، فالمعروف عن القضاء أنه يحتاج لسعة بال، وذكاء، وفطنة، وقد يرى الإمام العازف عن القضاء نفسه غير محقق لتلك الشروط.
قال الشيخ علاء الدين الطرابلسي – رحمه الله -:
قال بعض الأئمة: وشعار المتقين " البعد عن هذا والهرب منه "، وقد ركب جماعة ممن يقتدى بهم من الأئمة المشاق في التباعد عن هذا وصبروا على الأذى.
وانظر إلى قضية أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في الامتناع منه وصبره على الإيذاء حتى تخلص، وكذا غيره من الأئمة.
وقد هرب أبو قِلابة إلى مصر لما طلب للقضاء فلقيه أيوب فأشار إليه بالترغيب فيه، وقال له: لو ثبتَّ لنلتَ أجراً عظيماً، فقال له أبو قلابة: الغريق في البحر إلى متى يسبح؟ ! .
وكلام أبي قلابة هذا ومن تقدمه وما أشبه ذلك من التهديد والتخويف: إنما هو في حق من علم في نفسه الضعف، وعدم الاستقلال بما يجب عليه، وكذلك من يرى نفسه أهلا للقضاء والناس لا يرونه أهلا لذلك.
وقد قال بعض العلماء: لا خير فيمن يرى نفسه أهلا لشيء لا يراه الناس أهلا لذلك.
والمراد بالناس: العلماء، فهرُبُ مَن كان بهذه الصفة عن القضاء واجب، وطلبه سلامة نفسه أمر لازم.
" معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام " (ص ٩) .
٢. أنه يرى أنه غير واجب عليه، ولا مستحب، بل إن قولاً للإمام أحمد يحتمل أن يكون معناه: أنه لا يجب عليه حتى لو تعيَّن الأمر عليه، ولم يوجد غيره.
٣. أن فيه خطراً في الحكم بخلاف الحق، فيخشى العالِم على نفسه من تولي القضاء من أجل ذلك.
قال ابن قدامة – رحمه الله -:
وفيه – أي: القضاء - خطر عظيم، ووزر كبير، لمن لم يؤدِّ الحق فيه، ولذلك كان السلف رحمة الله عليهم يمتنعون منه أشد الامتناع، ويخشون على أنفسهم خطره.
" المغني " (١١ / ٣٧٦) .
وفي " الموسوعة الفقهية " (٣٣ / ٢٨٩، ٢٩٠) :
كان كثير من السلف الصالح يحجم عن تولّي القضاء ويمتنع عنه أشد الامتناع حتى لو أوذي في نفسه؛ وذلك خشيةً من عظيم خطره، كما تدلّ عليه الأحاديث الكثيرة والتي ورد فيها الوعيد والتخويف لمن تولى القضاء ولم يؤدّ الحق فيه، كحديث: (إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان) ـ[رواه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني]ـ، وحديث: (من ولي القضاء أو جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكّين) – [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني]-، وحديث: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحقّ فعلم ذاك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحقّ فذلك في الجنة) – [أخرجه الترمذي (٣ / ٦٠٤) والحاكم (٩٠٤) من حديث بريدة، واللفظ للترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي]-. انتهى
٤. عدم القدرة على تحمل بلاء القضاء.
قال الشيخ أبو الحسن النباهي – رحمه الله -:
ولما تقرر من بلاء القضاء: فرَّ عنه كثير من الفضلاء، وتغيبوا، حتى تركوا، وسُجن بسببه عند الامتناع آخرون، منهم أبو حنيفة، وهو النعمان بن ثابت، دعاه عمر بن هبيرة للقضاء، فأبى؛ فحبسه، وضربه أياماً، كل يوم عشرة أسواط، وهو متماد على إبايته، إلى أن تركه.
" تاريخ قضاة الأندلس " (ص ٧) .
٥. انشغالهم بما هو أهم، كانشغالهم بالرحلة في طلب العلم، وتعليم الناس.
وأخيراً: إذا كان الأئمة الأربعة – كما يروى عنهم - قد امتنعوا عن القضاء: فإن الأنبياء الكرام عليهم السلام والخلفاء الراشدين الأربعة قد تولوه، وباب الورع واسع لمن أراد التورع عنه.
ففي " الموسوعة الفقهية " (٣٣ / ٢٩٠) :
فقد تقلده – أي: القضاء - بعد المصطفى صلوات الله عليه وسلامه الخلفاء الراشدون، سادات الإسلام وقضوا بين الناس بالحقّ، ودخولهم فيه دليل على علوّ قدره، ووفور أجره، فإن من بعدهم تبع لهم، وَوَلِيَهُ بعدهم أئمة المسلمين من أكابر التابعين وتابعيهم، ومن كره الدّخول فيه من العلماء مع فضلهم وصلاحيتهم وورعهم، محمول كرههم على مبالغة في حفظ النفس، وسلوك لطريق السلامة، ولعلهم رأوا من أنفسهم فتوراً أو خافوا من الاشتغال به الإقلالَ من تحصيل العلوم.
انتهى
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب