هل يحذر أصحابه من الاستماع لهذا الداعية؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أحذر أصدقائي من سماع أحد الدعاة ولي أسباب هي: ١:- أنه قال إن إبليس لم يكفر. ٢:- قوله إن الله سوف يدخل الفنانين الجنة بفنهم. ٣:- قوله إن اليهود ليسوا أعداءنا. وأنا لم أقل ذلك عليه من فراغ، ولكني استمعت لأحاديثه وهو يقول بذلك، فإن كان ذلك حراما فأريد أن أعرف. وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نشكر لك حرصك وغيرتك على الإسلام، ولكن لا بد هنا من ذكر بعض القواعد المهمة التي ينبغي لكل مسلم التوقف عندها:
أولا:
باب الكلام في الناس باب خطير، والحكم عليهم بالمدح أو الذم أمر جليل، تهيب خوض غماره كثير من العلماء، فإن الغيبة من موبقات الذنوب، ويتعاظم إثمها إذا كانت غيبة للدعاة أو العلماء أو المصلحين.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) رواه مسلم (٢٥٦٤)
قال ابن دقيق العيد في "الاقتراح" (٣٤) :
" أعراضُ المسلمين حُفْرَةٌ من حُفَرِ النار " انتهى.
وقد أصبح الاشتغال بأخطاء الآخرين ومتابعتها آفة ابتلي بها الناس اليوم، وقد كان الأحرى بهم السعي في تحصيل العلم النافع والاجتهاد في صالح الأقوال والأعمال.
ومع ذلك فإن الغيبة تكون جائزة، بل قد تكون واجبة، إذا كانت لتحذير المسلمين من شر فاسق أو ضال أو مبتدع.
الناس جميعا - والدعاة والعلماء منهم - ليسوا معصومين من الخطأ، بل لم يسلم من الخطأ أحد من البشر.
غير أن هذه الأخطاء على نوعين:
الأول: أخطاء واضحة لمخالفة النصوص الصريحة أو الظاهرة، أو مخالفة إجماع الأمة، فهذا الخطأ يجب بيانه، ولا يجوز السكوت عنه.
النوع الثاني: أخطاء في مسائل اجتهادية، كتلك التي لم ترد فيها نصوص قطعية أو ظاهرة تدل على حكمها، ولكن ورد فيها نصوص محتملة في دلالتها، أو مختلف في صحتها، أو ليس فيها نصوص أصلا، وإنما هي قضايا اجتهادية عند أهل العلم، على ما هو معروف في بابه؛ فهذه لا يجوز إنكارها، ولا التشنيع على القائل بها، وإن كان لا يُمنع من التباحث فيها وبيان الصواب من غيره، كلٌّ حسب ما يراه.
وأما الطعن في الشخص نفسه والتحذير منه، فذلك يختلف باختلاف الأشخاص وحجم الأخطاء التي وقعوا فيها، ومدى استفادة المسلمين من دعوته، فإذا كان الرجل يدعو إلى منهج غير منهج أهل السنة والجماعة، ويحارب منهج أهل السنة، ويمدح غيره من المناهج، أو ينطلق في منهجه ـ وإن لم يصرح بذلك ـ من أصول بدعية؛ فهذا ـ إن كان عنده خير ـ إلا أن شره أعظم من خيره، فيجب التحذير منه، حتى لا ينخدع الناس بكلامه، ويكون سببا في إضلالهم.
ومن الناس ـ الدعاة ـ من ينتسب إلى أهل السنة والجماعة، ولا يدعو إلى منهج آخر، ولكنه كثرت أخطاؤه وشذوذاته، حتى صارت سيئات دعوته تربو على حسناته، وأخطاؤه أكثر من صوابه، فهذا أيضا يجب التحذير منه.
وقسم ثالث من الناس، ينتسب إلى أهل السنة والجماعة، وله بعض الأخطاء ـ التي لا يخلو منها بشر ـ إما عن تأويل أو اجتهاد خاطئ أو ضعف في العلم، أو دعوى المصلحة....إلخ، ولكنه في الجملة متمسك بالسنة داع إليها مدافع عنها، وحسناته أكثر من سيئاته، وانتفاع الناس بدعوته أكثر من الضرر الحاصل على بعضهم في اتباعه في هذه الأخطاء، فهذا يجب بيان أخطائه تحذيرا للناس، ونصحا لهم، وإنكارا للمنكر، ولكنه لا يجوز أن يتعدى ذلك إلى الطعن في الشخص نفسه، أو محاولة إسقاطه وتحذير الناس من استماعه أو الأخذ منه، أو الحمل عليه ـ تأولا ـ بأخطاء لم يصرح بها في كلامه؛ فإن المنصف من يغتفر قليل زلل المرء في كثير صوابه، ومَنْ مِنَ الناس هو الذي يصيب دائما ولا يخطئ؟
من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
فقد دار حديثنا هنا ـ أيها الأخ الكريم ـ على أصول مهمة يجب البناء عليها عند النظر والحكم على الآخرين:
الأصل الأول: النظر إلى أصول الشخص، ومنطلقه في علمه وعمله؛ فمن كان قصده متابعة الرسول، وتعظيم شرعه، ظاهرا وباطنا، فهذا يغتفر له، إن شاء الله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في معرض كلامه عن أبي ذر الهروي، والباقلاني والباجي، وغيرهم من علماء الأشاعرة:
" ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف.
لكن لما التبس عليهم هذا لأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة [يعني: نفي الأفعال الاختيارية، والأمور المتعلقة بمشيئة الله تعالى] وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين؛ وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها!!
وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء؛ بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاو لهم عن السيئات: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر: ١٠) .
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له خطأه؛ تحقيقا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة: ٢٨٦)
ومن اتبع ظنه وهواه، فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ، ظنه صوابا بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة؛ فإنه يلزمه نظير ذلك، أو وأعظم أو أصغر، فيمن يُعَظِّمُه هو من أصحابه؛ فقلَّ من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين، لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب.. " انتهى.
درء تعارض العقل والنقل (٢/١٠٢-١٠٣) .
الأصل الثاني: إذا عرف أن أصله تعظيم شرع الله، واتباع رسوله، ظاهرا وباطنا، فإنه يوزن قوله وعمله بميزان الكتاب والسنة، وموازنة حسناته وسيئاته، على ما سبق الإشارة إليه.
يقول شيخ الإسلام، رحمه الله:
" وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد؛ فإن الأمر والنهى وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له؛ فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأمورا به؛ بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.
لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة؛ فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تُعْوِز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام.
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما؛ بل إما أن يفعلوهما جميعا أو يتركوهما جميعا، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر؛ بل ينظر:
فإن كان المعروف أكثر أُمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وزوال فعل الحسنات!!
وان كان المنكر اغلب نهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الامر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه، أمرا بمنكر، وسعيا في معصية الله ورسوله!!
وان تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما؛ فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي؛ حيث كان المنكر والمعروف متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
وأما من جهة النوع: فيؤمر بالمعروف مطلقا، وينهى عن المنكر مطلقا.
وفي الفاعل الواحد، والطائفة الواحدة: يؤمر بمعروفها، وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويُذم مذمومها؛ بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات معروف أكبر منه، أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه.
وإذا اشتبه الأمر: استثبت المؤمن حتى يتبين له الحق؛ فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصيا؛ فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية؛ وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله!! " انتهى.
الاستقامة (٢/٢١٦-٢١٩) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى "مجموع الفتاوى" (٧/٣١١-٣١٥) :
"وما وجد من اجتهاد لبعض العلماء وطلبة العلم فيما يسوغ فيه الاجتهاد فإن صاحبه لا يؤاخذ به ولا يثرب عليه إذا كان أهلا للاجتهاد , فإذا خالفه غيره في ذلك كان الأجدر أن يجادله بالتي هي أحسن , حرصا على الوصول إلى الحق من أقرب طريق، ودفعا لوساوس الشيطان وتحريشه بين المؤمنين.
فإن لم يتيسر ذلك , ورأى أحد أنه لا بد من بيان المخالفة فيكون ذلك بأحسن عبارة وألطف إشارة , ودون تهجم أو تجريح أو شطط في القول قد يدعو إلى رد الحق أو الإعراض عنه، ودون تعرض للأشخاص أو اتهام للنيات أو زيادة في الكلام لا مسوغ لها، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في مثل هذه الأمور: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا) " انتهى.
والله أعلم.
الأصل الثالث: ألا يكون الكلام إلا بما هو فيه فعلا، وإلا كان بهتانا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لمن سأله عن الغية:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟
قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ!!
قَالَ: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ!!
قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟
قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ!!) رواه مسلم (٢٥٨٩) .
سئل شيخ الإسلام رحمه الله:
هل يجوز غيبة تارك الصلاة أم لا؟
فأجاب:
" الحمد لله؛ إذا قيل عنه إنه تارك الصلاة، وكان تاركها، فهذا جائز، وينبغي أن يشاع ذلك عنه ويُهجر حتى يصلي، وأما مع القدرة فيجب أن يُسْتتاب؛ فإن تاب وإلا قُتِل!!) انتهى.
آثار شيخ الإسلام (٥/١٢٢) .
ويجب التنبه أيضا إلى أن كثيراً من هؤلاء الدعاة دعوتهم موجهة في الأصل إلى عامة المسلمين، الذين قد يكون كثير منهم تاركاً للصلاة أو متهاوناً بها، أو منغمسا في المعاصي والموبقات، فإقبال هؤلاء وأمثالهم على أولئك الدعاة واستمالتهم إليهم وهدايتهم على أيديهم فيه خير كثير، وهو خطوة أو خطوات إلى الأمام، فليس من الحكمة الكلام مع أمثال هؤلاء عن أولئك الدعاة وتحذيرهم منهم، لأن كثيرا من هؤلاء يكون أمامه خياران اثنان، إما أن يبقى مع هؤلاء الدعاة، وإما أن يعود إلى ما كان عليه، ولا شك أن بقاءه مع هؤلاء الدعاة خير له،
ولكن الواجب على أهل الحق بعد ذلك أن يتعاهدوا هؤلاء، ويأخذوا بأيديهم إلى منهج أهل السنة شيئا فشيئا.
وما ذكرته من الأخطاء عن الشخص المعين، يجب تحذير المسلمين منها، وتنبيههم إلى مخالفتها لكتاب الله وسنة رسوله، بل وإجماع المسلمين؛ ثم ينظر في منهجه في دعوته، في ضوء الأصل العام الذي سبق ذكره، وإن أمكن لمن فيه علم وانتباه ودين أن ينتفع في نفسه، أو ينفع غيره، بما عند هذا الشخص وأمثاله من الخير، ويحذر في نفسه , ويحذر غيره، مما عنده من خطأ أو بدعة، فهو حسن إن شاء الله تعالى؛ وإلا ففي الخير الخالص أو الغالب ما يغني عنه إن شاء الله:
خُذ ما تَراهُ وَدَع شَيئاً سَمِعتَ بِهِ في طَلعَةِ الشَمسِ ما يُغنيكَ عَن زُحَلِ
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب