من أحكام المال الحرام في كسبه وذاته، وحكم الاستفادة منه من الأولاد، وتوريثه
[السُّؤَالُ]
ـ[أبي كان يعمل في شركة تأمين، وعندما عمل بهذه الشركة من البداية كان لا يعلم أن العمل في شركات التأمين حرام، ولكنه علم أن العمل بها حرام عندما بلغ الخمسين من عمره، ومع ذلك لم يترك العمل، أبي الآن عمره سبع وستون سنة، وبلغ سن التقاعد منذ سبع سنوات، ومع ذلك يعمل بها بدون مرتب، لكن بنظام العمولة، وهو ينوي أن يترك هذا العمل في نهاية هذا العام، نصحته مرات عديدة فيقول لي: إنه قريباً سيترك العمل، أحب أن أوضح أن المال الذي حصل عليه أبي من شركته تصرَّف به على النحو التالي: في البداية تم إيداعه في البنك بنظام الفوائد، ثم بعد ذلك أخذه واستثمره في مشروع مقاولات (مشروع حلال) . بعد هذا الإيضاح: أرجو التكرم بالإجابة عن الأسئلة التالية: - ما حكم هذا المال حلال أم حرام أم مال مختلط؟ . - هل يجوز لي ولإخوتي وأمي الانتفاع بهذا المال بالرغم أني أعمل، وأحصل على راتب متواضع، والحمد لله يعينني على الحصول على قوت يومي؟ . - أبي ينفق علينا، وينوي بإذن الله أن يعطيني أنا وإخوتي لكل واحد منا شقة للسكن، وجزءً من المال، فهل أقبل أن آخذ الشقة والمال أم أرفض؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
عقود التأمين التجارية المشتهرة المنتشرة في الآفاق لا شك في حرمتها، ومخالفتها للشرع، فهي عقود غرر، وميسر، وبعض أنواعه تؤخذ من الناس كرهاً بغير طيب نفس، فقد جمعت هذه العقود شروراً مختلفة، فلا عجب أن تجتمع كلمة العلماء على حرمتها، والخلاف فيها شاذ غير معتبر.
ثانياً:
بخصوص عمل والدك وكسبه من العمل في شركة التأمين: فإننا نذكره بتقوى الله تعالى أولاً، فقد شارف على السبعين! وهو لا يزال يعمل فيما علم أنه حرام ولا يحل له البقاء فيه، فمتى سيتقي ربه ويترك ما يغضب الله تعالى من الأعمال؟ وهل يضمن حياته إلى آخر السنة حتى يبقى على عمل محرم؟ وكيف يرضى لنفسه وقد بلغ هذه السن أن يُختم له وهو يعصي ربَّه تعالى؟ ومثل هذا مكانه مسجد حيِّه، مصليّاً، وقارئاً للقرآن، وداعياً، ومكانه الحرم، معتمراً، ومعتكفاً، ومتعبداً، وليس مكانه شركات القمار، وليس همه كيف يجلب زبوناً، أو يحافظ على آخر، فنسأل الله تعالى أن يعجل هدايته، وأن ييسر له ختم حياته على خير ما يحب ربه منه.
وبخصوص المال المكتسب من ذلك العمل المحرَّم: فما كان قبل علمه بحرمة عمله: فهو حلال له، رواتب تلك المدة ومكافآتها، وما كان بعد علمه بحرمته: حرام عليه، رواتب تلك المدة ومكافآتها.
قال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء في بعض أجوبتهم:
المدة التي جلستَها في البنك للعمل فيها: نرجو من الله أن يغفر إثمها عنك، وما جمعتَه من نقود وقبضتها بسبب العمل في البنك عن المدة الماضية: لا إثم عليك فيها، إذا كنت تجهل الحكم في ذلك.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (١٥ / ٤٦) .
وهذه الفتوى تنطبق على كل من عمل في مجال كسبٍ محرَّم وهو لا يدري حكمه، أو قيل له ممن يثق به إنه جائز، لكنَّ ذلك الحِل له شرط لم يأتِ به والدك، وهو الترك للعمل، والكف عن الاستمرار به، والكف عن الحرام جعله الله تعالى شرطاً لحل ما سبق أخذه.
قال تعالى: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ) البقرة/ آية ٢٧٥.
قال الشيخ العثيمين – رحمه الله -:
من فوائد الآية: أن ما أخذه الإنسان من الربا قبل العلم بالتحريم: فهو حلال له، بشرط أن يتوب وينتهي.
" تفسير سورة البقرة " (٣ / ٣٧٧) .
وبمثله قال علماء اللجنة الدائمة، انظر فتواهم في جواب السؤال رقم (١٠٦٦١٠) .
وأما بعد علمه بالتحريم: فلا يحل له كسبه؛ لحرمة العمل نفسه.
ثالثاً:
بخصوص الزوجة والأولاد الذين هم في رعاية من يكسب الحرام من عمل محرَّم: فإنه لا حرج عليهم فيما يُنفق عليهم من قبله، وإنما إثمه وتحريمه على من اكتسبه دون غيره، ومن هنا نعلم سبب قبول النبي صلى الله عليه وسلم دعوة اليهود، وأكله من طعامهم، مع كونهم يكسبون المال بطرق محرَّمة.
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
أبي - غفر الله له - يعمل في بنك ربوي، فما حكم أخذنا من ماله وأكلنا وشربنا من ماله؟ غير أن لنا دخلاً آخر وهو من طريق أختي الكبيرة فهي تعمل، فهل نترك نفقة أبي ونأخذ نفقتنا من أختي الكبيرة مع أننا عائلة كبيرة، أم أنه ليس على أختي النفقة علينا فنأخذ النفقة من أبي؟ .
فأجاب:
" أقول: خذوا النفقة من أبيكم، لكم الهناء، وعليه العناء؛ لأنكم تأخذون المال من أبيكم بحق؛ إذ هو عنده مال وليس عندكم مال، فأنتم تأخذونه بحق، وإن كان عناؤه وغرمه وإثمه على أبيكم، فلا يهمكم، فها هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبَل الهدية من اليهود، وأكل طعام اليهود، واشترى من اليهود، مع أن اليهود معروفون بالربا، وأكل السحت، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يأكل بطريق مباح، فإذا ملك بطريق مباح: فلا بأس، انظر مثلاً " بريرة " مولاة عائشة رضي الله عنهما، تُصدق بلحم عليها، فدخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوماً إلى بيته ووجد البُرمة – القِدر - على النار، فدعا بطعام، ولم يؤتَ بلحم، أتي بطعام ولكن ما فيه لحم، فقال: (ألم أر البرمة على النار؟) قالوا: بلى يا رسول الله، ولكنه لحم تُصدق به على " بريرة " - والرسول عليه الصلاة والسلام لا يأكل الصدقة -، فقال: (هو لها صدقة ولنا هدية) فأكله الرسول عليه الصلاة والسلام مع أنه يحرم عليه هو أن يأكل الصدقة؛ لأنه لم يقبضه على أنه صدقة بل قبضه على أنه هدية.
فهؤلاء الإخوة نقول: كلوا من مال أبيكم هنيئاً مريئاً، وهو على أبيكم إثم ووبال، إلا أن يهديه الله عز وجل ويتوب، فمن تاب: تاب الله عليه.
" اللقاء الشهري " (٤٥ / السؤال رقم ١٦) .
وحكم هذا المال المختلط: أنه ما أُعطي لكم منه: فكلوه هنيئاً مريئاً، سواء كان مالا نقديّاً، أو عيناً كشقة، أو أرض.
وما تركه لكم بعد وفاته: فانظروا إن كان ثمة صاحب للمال الذي ورَّثه لكم أُخذ ظلماً فادفعوه له، فإن لم يكن له صاحب، أو لم تستطيعوا الوصول إليه: فأخرجوا قدر هذا المال في وجوه الخير، وهذا في المال المحرَّم لذاته، وأما المحرَّم لكسبه فهو حرام عليه دونكم، وهو لكم حلال، كما سبق في كلام الشيخ العثيمين رحمه الله، إلا أن تتورعوا عنه، فتخرجوه في وجوه الخير، ولكن هذا ليس بمحتم عليكم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله - وسئل عن مرابٍ خلَّف مالاً وولداً وهو يعلم بحاله، فهل يكون حلالاً للولد بالميراث أو لا؟ -:
أما القدْر الذي يعلم الولد أنه رباً: فيخرجه، إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا يتصدق به، والباقي: لا يحرم عليه.
لكن القدر المشتبه: يستحب له تركه إذا لم يجب صرفه في قضاء ديْن أو نفقة عيال، وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء: جاز للوارث الانتفاع به، وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما: جعل ذلك نصفين.
" مجموع الفتاوى " (٢٩ / ٣٠٧) .
وقال علماء اللجنة الدائمة:
لا يجوز للأب أن يربِّي أولاده على كسبٍ حرام، وهذا معلوم عند السائل، وأما الأولاد: فلا ذنب لهم في ذلك، وإنما الذنب على أبيهم.
وإذا كان المنزل كله من السرقة: فالواجب على الورثة رد السرقة إلى أهلها، إذا كانوا معروفين، وإن كانوا مجهولين: وجب صرف ذلك إلى جهات البر، لتعمير المساجد، والصدقة على الفقراء، بالنية عن مالك السرقة، وهكذا الحكم إذا كان بعض المنزل من السرقة وبعضه من مال الجد، فعلى الورثة أن يردوا ما يقابل السرقة إلى أهلها إن عُرفوا، وإلا وجب صرف ذلك في جهات البر، كما تقدم.
الشيخ عبد العزيز بن باز , الشيخ عبد الرزاق عفيفي , الشيخ عبد الله بن غديان , الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (٢٦ / ٣٣٢) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب