هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وصف لحوم البقر أنها داء؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة هذا الحديث: (لحوم البقر داء، وسمنها ولبنها دواء) ]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لحم البقر من اللحوم الحلال، امتن الله على عباده بها في سورة الأنعام، فقال عز وجل: (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) الأنعام/١٤٤، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ. رواه البخاري (٢٩٤) ومسلم (١٢١١) ، وهي من الأنعام والبُدن التي أجمع العلماء على حلها وطيب لحمها، وقد قال الله عز وجل فيها: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الحج/٣٦.
ثانيا:
أما الحديث المقصود في السؤال، فهو حديث منكر لا يصح، ولا تجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء من روايات عدة كلها منكرة:
أولا: عن مليكة بنت عمرو الجعفية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(ألبانها شفاء – يعني البقر -، وسمنها دواء، ولحمها داء)
رواه علي بن الجعد في " مسنده " (ص/٣٩٣) ، وأبو داود في " المراسيل " (ص/٣١٦) ، والطبراني في " المعجم الكبير " (٢٥/٤٢) ، ومن طريقه أبو نعيم في " معجم الصحابة " (رقم/٧٨٥٠) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " (٩/٣٤٥) وفي " شعب الإيمان " (٥/١٠٣)
جميعهم من طريق زهير بن معاوية أبي خيثمة، عن امرأته وذكر أنها صدوقة، وأنها سمعت مليكة بنت عمرو، وذكرت الحديث.
هذا لفظ علي بن الجعد، وهو أعلى مَن أسند الحديث، وأما غيره فقالوا: عن امرأة من أهله – يعني زهير بن معاوية -.
وهذا إسناد ضعيف، ومليكة بنت عمرو الزيدية السعدية مختلف في صحبتها، ورواية أبي داود لحديثها في كتابه " المراسيل " دليل على أنه لا يرى صحبتها، وإن كان جزم بصحبتها آخرون، ولكن التحقيق يقتضي أنه لا سبيل إلى الجزم بذلك، ولذلك قال الحافظ ابن حجر في " تقريب التهذيب " (٧٥٣) : يقال لها صحبة، ويقال: تابعية. ولم يجزم فيها بشيء، فيبقى في الأمر احتمال قائم، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال. وانظر ترجمتها في " الإصابة " (٨/١٢٢)
لذلك ضعف هذا السند السخاوي في " الأجوبة المرضية " (١/٢١) ، والمناوي في "فيض القدير" (٢/١٩٦) ، والعجلوني في " كشف الخفاء " (٢/١٨٢) .
ثانيا: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(عليكم بألبان البقر وسمنانها، وإياكم ولحومها، فإن ألبانها وسمنانها دواء وشفاء، ولحومها داء)
رواه الحاكم في " المستدرك " (٤/٤٤٨) ، وعزاه السيوطي (٥٥٥٧) أيضا لابن السني وأبي نعيم كلاهما في " الطب ".
قال الحاكم: حدثني أبو بكر بن محمد بن أحمد بن بالويه، ثنا معاذ بن المثنى العنبري، ثنا سيف بن مسكين، ثنا عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، عن الحسن بن سعد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه: عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلنا: وهذا إسناد ضعيف جدا، فيه عدة علل:
١- سيف بن مسكين: قال ابن حبان رحمه الله: " يأتي بالمقلوبات والأشياء الموضوعات، لا يحل الاحتجاج به لمخالفته الأثبات في الروايات على قلتها " انتهى. " المجروحين " (١/٣٤٧)
٢- الاختلاف في سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه. انظر " تهذيب التهذيب " (٦/٢١٦)
٣- اختلاط عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود المسعودي. انظر " تهذيب التهذيب " (٦/٢١١)
ولذلك كله حكم العلماء بتساهل الحاكم حين قال في الحديث:
" هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " انتهى.
والصواب مع تعقب الذهبي له بقوله:
" سيف: وهَّاه ابن حبان " انتهى.
وقال الزركشي:
" هو منقطع، وفي صحته نظر، فإن في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه بالبقر، وهو لا يتقرب بالداء " انتهى.
" التذكرة في الأحاديث المشتهرة " (ص/١٤٨)
وقال السخاوي:
" ضعيف منقطع " انتهى.
" الأجوبة المرضية " (١/٢٣)
وقال الحافظ ابن حجر:
" روي بأسانيد ضعيفة " انتهى.
" أسئلة وأجوبة " (ص/٦١) .
ثالثا: روى ابن عدي في " الكامل " (٧/٢٩٨) وغيره الحديث من مسند ابن عباس رضي الله عنهما، وفي سنده محمد بن زياد الطحان متهم بالكذب، فلا يستشهد به.
رابعا: روى ابن السني، وأبو نعيم، الحديثَ عن صهيب الرومي رضي الله عنه، عزاه السيوطي إليهما.
وقال ابن القيم رحمه الله:
" روى محمد بن جرير الطبرى بإسناده، من حديث صُهيب يرفعُه: (عليكم بألبان البقَرِ، فإنها شفاءٌ، وسَمْنُها دَواءٌ، ولُحومُها داء) ، رواه عن أحمد بن الحسن الترمذى، حدَّثنا محمد ابن موسى النسائى، حدَّثنا دَفَّاع ابن دَغْفَلٍ السَّدوسى، عن عبد الحميد بن صَيفى بن صُهيب، عن أبيه، عن جده، ولا يثبت ما في هذا الإسناد " انتهى.
" زاد المعاد " (٤/٣٢٤-٣٢٥)
قال العلامة الشيخ سليمان العلوان حفظه الله:
" هذا الخبر جاء بأسانيد منكرة عند الطبراني في المعجم الكبير، والحاكم في المستدرك. ورواه أبو داود في المراسيل من طريق زهير بن معاوية حدثتني امرأة من أهلي عن مليكة بنت عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مرسل ضعيف.
ولم يثبت في النهي عن لحم البقر شيء ... فالذي يجب القطع به أن هذا الأثر باطل، وليس لتصحيحه وجه معتبر، وقد أجاد ابن الجوزي في قوله: فكل حديث رأيته يخالف المعقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع فلا تتكلف اعتباره " انتهى.
وعلى كل حال: فجميع العلماء متفقون على حل أكل لحوم البقر، ولكن بعض أهل العلم يحذرون من المبالغة في أكله، خاصة إذا لم ينضج على النار إلى حد الاستواء الكافي، وهذا هو أيضا تفسير الداء الناجم عنه، عند من حسّن الحديث السابق من العلماء.
قال ابن القيم رحمه الله:
" لحم البقر عسير الانهضام، بطيء الانحدار، ويورث إدمانه الأمراض السوداوية، ولحم العجل ولا سيما السمين من أعدل الأغذية، وأطيبها، وألذها، وأحمدها، وإذا انهضم غذى غذاءً قوياً " انتهى.
" زاد المعاد " (٤/٣٧٤) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله، وهو ممن يحسن الحديث:
" كل لحم البقر، وفيه العافية، لأن آل النبي وأهله أكلوا لحم البقر، وضحى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أهله في حجة الوداع بالبقر، لكن أنصحك بأن لا تكثر منه؛ لأن هذا الإكثار هو مراد الحديث " انتهى.
" سلسلة الهدى والنور " (رقم/٢٣٦ (٧:٢٠-٨)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب