هل يجوز إخراج المبتدعة من المساجد
[السُّؤَالُ]
ـ[هناك أناس في مسجدنا يقومون بالمسجد من أذان وصلاة وخطبة، ولكن يقومون بكثير من البدع، وقد نصحناهم أكثر من مرة ولكنهم لم يتركوا ذلك. هل يجوز إخراجهم من المسجد بالقوة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز أن يُطرد المسلم عن بيوت اللَّه، ولو كان مبتدعاً، فهي بيوت مبنية لإقامة ذكر الله وعبادته، والمبتدع مشكور على طاعته، مأجور على كل خير يعمله لوجه الله تعالى، مع ترتب الإثم على بدعته، فلا يجوز لأحد أن يحجزه عن عبادة الله وطاعته، بل ينبغي إعانته عليها، وحثه على حضور جماعة المسلمين، لعله يسمع السنَّة من أهل العلم، فيرتدع عن الإحداث في الدين.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن بدخول المسجد من قِبَل بعض المشركين، كما في قصة ثمامة بن أثال رضي الله عنه، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بربطه إلى سارية من سواري المسجد، وذلك قبل أن يسلم، حتى أَسلَمَ في اليوم الثالث، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ) رواه البخاري (٤٦٢) ومسلم (١٧٦٤) .
فانظر كيف كان بقاؤه في المسجد سبباً في هدايته وإسلامه رضي الله عنه؛ فكيف بالمسلمين الذي يقومون بعمارة المسجد، بالأذان والخطابة، وغير ذلك، كما ورد في السؤال؟!
ولمَّا تخلَّف كعب بن مالك عن شهود تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهَجرِهِ ومنع الناس من الحديث معه، حتى أمره بترك زوجته، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يمنعه من حضور جماعة المسلمين، وشهود صلاتهم.
يقول رضي الله عنه: (وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، قَالَ: فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِيَ الْأَرْضُ، فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا، ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي) رواه البخاري (٢٧٥٧) ومسلم (٢٧٦٩) .
ولما ظهرت الخوارج ببدعتهم، وفرقوا جماعة المسلمين بفكرتهم، وأحدثوا ما أحدثوا لم يأمر أحدٌ من الصحابة بإخراجهم من المساجد وطردهم عنها، لأنها بيوتٌ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا ينبغي لأحد أن يمنع ما أذن الله به.
قال علي بن أبي طالب في الخوارج: (لهم علينا ثلاث: ألا نبدأهم بقتال ما لم يقاتلونا، وألا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيه اسمه، وألا نحرمهم من الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا) .
رواه ابن أبي شيبة في " المصنف " (٧ / ٥٦٢) بإسناد حسن.
والذي يشرع في حقكم أن تحسنوا إليهم في بيت الله، وأن تجتهدوا في بيان السنة لهم بكل سبيل، وإذا أمكنكم منعهم من إقامة بدعتهم، بعد سؤال أهل العلم، والتحقق من أن هذا العمل المعين هو بدعة؛ فلكم أن تمنعوهم ـ فقط ـ عن هذه البدعة، لا أن تمنعوهم من المسجد بالكلية، شريطة ألا يترتب على منعهم هذا فتنة بين المسلمين، أو مفسدة هي أكبر من هذه البدعة التي تريدون منعها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما ; بل إما أن يفعلوهما جميعا ; أو يتركوها جميعا: لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا من منكر ; [بل] ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به ; وإن استلزم ما هو دونه من المنكر. ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ; بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات. وإن كان المنكر أغلب نُهي عنه ; وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف. ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه، أمرا بمنكر، وسعيا في معصية الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما. فتارة يصلح الأمر ; وتارة يصلح النهي ; وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين ; وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا، وينهى عن المنكر مطلقا.
وفي الفاعل الواحد، والطائفة الواحدة، يؤمر بمعروفها، وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويذم مذمومها ; بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه، أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه، أو فوات معروف أرجح منه. وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق ; فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية ".
انتهى، من " مجموع الفتاوى" (٢٨/١٢٩-١٣٠) ، وأيضا: "الاستقامة" (٢/٢١٧-٢١٨) .
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
عندنا في العمل شيعة، هل يجوز أن نرد عليهم السلام، ونراهم في المسجد كذلك يصلون على أوراق، فهل يجوز طردهم من المسجد؟ .
فأجاب:
أقول: عاملهم بما يعاملونك به، إذا سلموا فرد عليهم السلام، ولا يحسن أن يطردوا من المسجد، بل ربما يكون بعضهم من العامة الذين لا يعرفون شيئاً وقد ضللهم علماؤهم؛ فيمكنكم أنتم باللباقة والدعوة بالتي هي أحسن أن تؤثروا عليهم، واستعمال العنف بين الناس أمر غير وارد، والله سبحانه وتعالى يحب الرفق في الأمر كله، فأنتم الآن لو تصادمتم معهم وقلتم: لا تسجدوا على ورق، لا تسجدوا على حجر وما أشبه ذلك، لو كان الأمر ينتهي إلى هذا ثم ينتهون لكان الأمر طيِّباً، لكن سوف يزيدون، وسوف تكون العداوة والبغضاء بينكم أشد، فالذي أرى أن الواجب أولاً نصحهم، لاسيما العوام، والنصح ليس معناه أن تهاجم مذهبهم وملتهم الفاسدة الباطلة، لا، النصح أن تبين لهم الحق وتبين لهم السنة، ثم بعد ذلك إذا تبينت لهم السنة، فأنا أجزم جزماً، إن كان عندهم إيمان حقيقة، أن يرجعوا إليها وأن يدعوا باطلهم، فإن حصل هذا فهو الأكمل والأحسن، وإن لم يحصل فأنتم عاملوهم بما يعاملونكم به، وأما طردهم من المسجد فليس إليكم.
" لقاءات الباب المفتوح " (لقاء رقم ٨٠، سؤال رقم ٤) .
وأخيراً:
ننبهكم إلى أنه ليس كل من فعل بدعة يكون مبتدعاً، كما أن بعض ما ترونه بدعة لا يكون كذلك على التحقيق، ولا يجوز جعل هذه المسائل مرجعها لصغار طلبة العلم، أو المتحمسين للسنَّة، فهؤلاء أنفسهم يحتاجون لتوجيه وعناية ونصح، فمثلاً: قد يرون أن قبض اليد على الصدر بعد الركوع بدعة! فهل يحكمون على من فعلها بأنه مبتدع؟! وهل يريدون طرد مثل هؤلاء؟ وهل يعرفون من يفعل ذلك – أي: القبض بعد الركوع – من أئمتنا وعلمائنا؟! .
فنحن نشكر لهؤلاء الإخوة غيرتهم على السنَّة، لكننا لا نريد أن يدفعهم حماسهم هذا للحكم على الناس، ولا لطردهم من بيوت الله تعالى، وكم عانينا من تصنيف الناس، فهل سينتقل التصنيف إلى بيوت الله؟! نرجو أن لا يكون ذلك، ونرجو منهم التعقل والسؤال – كما فعلوا هنا -، وها هي فتاوى العلماء واضحة بيِّنة حتى في المبتدعة الغلاظ كالشيعة، مع عدم إغفال جانب دعوتهم وحثهم على السنَّة بالتي هي أحسن.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب