للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل يجوز لخطيب الجمعة أن يستشهد بالشعر ويكثر منه؟

[السُّؤَالُ]

ـ[في منطقتنا إمام شاب، وهو كل جمعة في الخطبتين يستدل كثيراً بالشعر، فما هو رأيكم؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على الشعر الذي يستعمله صاحبه لنصرة الإسلام، ورد افتراءات المشركين، فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ بن ثابت رضي الله عنه: (اهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ) رواه البخاري (٣٨١٤) ومسلم (٤٥٤١) .

وقال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اهْجُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ) رواه مسلم (٤٥٤٥) .

ومع ذلك فقد ذم الرسول صلى الله عليه وسلم من يشتغل بالشعر، ويُقبل عليه، ويعرض عن القرآن والعلم الشرعي.

فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْراً) . رواه البخاري (٥٨٠٢) ومسلم (٢٢٥٨) .

والحديث بوَّب عليه البخاري بقوله: " ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده ".

وعلَّق الحافظ ابن حجر بقوله:

"تنبيه: مناسبة هذه المبالغة في ذم الشعر: أن الذين خوطبوا بذلك كانوا في غاية الإقبال عليه والاشتغال به، فزجرهم عنه؛ ليُقبلوا على القرآن، وعلى ذِكر الله تعالى، وعبادته " انتهى.

" فتح الباري " (١٠ / ٥٥٠) .

وقال النووي رحمه الله:

"الصواب: أن المراد أن يكون الشعر غالباً عليه، مستولياً عليه، بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية وذِكر الله تعالى، وهذا مذموم من أي شعر كان، فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه: فلا يضر حفظ اليسير من الشعر مع هذا؛ لأن جوفه ليس ممتلئا شعراً " انتهى.

" شرح مسلم " (١٥ / ١٤) .

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:

"واعلم أن التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشعر كلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، ومن الأدلة القرآنية على ذلك: أنه تعالى لما ذم الشعراء بقوله: (والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) استثنى من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات في قوله: (إِلَاّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً) الشعراء/ ٢٢٧، وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق أن الحديث الصحيح المصرح بأن امتلاء الجوف من القيح المفسد له خير من امتلائه من الشِّعر محمول على من أقبل على الشعر، واشتغل به عن الذِّكر، وتلاوة القرآن، وطاعة الله تعالى، وعلى الشعر القبيح المتضمن للكذب، والباطل كذكر الخمر ومحاسن النساء الأجنبيات ونحو ذلك " انتهى.

" أضواء البيان " (٦ / ١٦٥) .

فليحذر الدعاة إلى الله وطلبة العلم والخطباء من فتنة الشِّعر؛ فإن لها بريقاً يخطف الأبصار، ولها حلاوة تسلب العقول، وليحرص أن يمتلأ جوفه بكتاب الله، ونصوص السنَّة، ولا بأس من حفظ بعض الأشعار، لكن ليس على حساب نصوص الوحي.

ثانياً:

اختلف العلماء في حكم إنشاد الشِّعر في خطبة الجمعة، فذهب بعضهم إلى المنع منه، وأجازه آخرون بشرط عدم الإكثار منه.

والذين ذهبوا للمنع قالوا: لم نجد في السنَّة النبوية أي دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان ينشد الأبيات من الشعر على المنبر، والذين قالوا بالجواز قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على بعض الشعر، وقال إن فيه حكمة، فلا مانع من أن يأتي الخطيب في خطبته ببعض الأبيات، على أن لا يكثر من ذلك، وعلى أن لا يكون ذلك على حساب الأدلة الشرعية.

وممن قال بالمنع: الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله حيث قال:

"ولا أعرف في خطب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في خطب الصحابة رضي الله عنهم الاستشهاد بالشعر ببيت فصاعداً، وعلى هذا جرى التابعون لهم بالإحسان.

وقد استمرأ بعض الخطباء في القرن الرابع عشر تضمين خطبة الجمعة البيت من الشعر فأكثر، بل ربما صار الاستشهاد بمقطوعات شعرية متعددة، وربما كان إنشاد بيت لمبتدع، أو زنديق، أو ماجن ".

وقال أيضاً:

"والمقام في خطبة الجمعة مقام له خصوصيات متعددة يخالف غيره من المقامات، في الدروس، والمحاضرات، والوعظ، والتذكير، وهو مقام عظيم لتبليغ هذا الدين صافياً، يجهر فيه الخطيب بنصوص الوحيين الشريفين، وتعظيمهما في القلوب، والبيان عنهما بما يليق بمكانتهما ومكانة فرائض الإسلام، فلا أرى لك أيها الخطيب للجمعة إلا اجتناب الإنشاد في خطبة الجمعة، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو بك أجمل، وبمقامك أكمل، والله المستعان " انتهى.

" تصحيح الدعاء " (ص ٩٩) .

وقد ذهب الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، إلى جواز أن يستشهد خطيب الجمعة بأبيات من الشِّعر، على أن يكون ذلك بقدر، وبحسن اختيار.

فقد سئل الشيخ رحمه الله: هل الاستشهاد ببعض الشِّعر في خطبة الجمعة مما يحث على مكارم الأخلاق، والجهاد ي سبيل الله أمر مشروع؟ .

فأجاب:

"لا شك بذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ مِن الشِّعر لحكمة) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينشد مع الصحابة وهم يبنون المسجد، ينشد معهم عليه الصلاة والسلام:

والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينةً علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا

كان رافعا بها صوته يقول: أبينا، أبينا، أبينا، كما أن عليه الصلاة والسلام أنشدهم وهم يحفرون الخندق.

فالمقصود: أن إنشاد الشعر الحق الطيب في الخطب، والمواعظ، والمحاضرات، وخطب الجمعة، والأعياد: لا بأس به؛ لأنه يؤثر، ويحصل به خير عظيم " انتهى.

" جريدة المدينة " العدد ٩١٧٠، الثلاثاء ٢٢ / ١٢ / ١٤١٢ هـ.

وهذا القول هو الراجح، فلا بأس أن يستشهد خطيب الجمعة بما يراه مناسباً لخطبته من شعر يحتوي على بلاغة وفصاحة وتأثير في الناس، على ألا يكثر من ذلك، ولا يكون ذلك مقدماً عنده على نصوص الوحيين: القرآن والسنة.

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>