حُكم مزحة الكترونية! فيها ادعاء علم الغيب وكذب وترويع
[السُّؤَالُ]
ـ[ظهرت مؤخراً خدعة أو ما يسمَّى " مزحة الكترونية "، وهي عبارة عن رابط الكتروني لموقع أجنبي يُرسل للشخص من قبل أصدقائه - عادةً - يطلب منك كتابة اسمك و ٣ أسماء تحبهم ليعطيك نتيجة افتراضية لمقدار محبتهم لك، أو العكس، على سبيل المرح لا غير، المشكلة هي أنك بعد كتابة اسمك و٣ أسماء أخرى تفتح لك صفحة تخبرك بأنك خُدِعت، وأن الشخص الذي أرسل لك الرسالة (ويظهر لك إيميله) تم إرسال الأسماء إليه!! هل تجوز هذه الخدعة أو المزحة؟ وإذا حاججته بعدم جوازها وأن فيها خداعاً للمسلمين وقد يكون فيها خصوصيات، كأن يكتب اسم زوجته أو شخص محبب له , يقول لك: أنا لم أجبره على المشاركة! يذكرني ذلك بقول الله تعالى على لسان إبليس - أعوذ بالله منه -: (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) الآية.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
هذه المزحة السخيفة فيها مخالفة للشرع أعظم من الكذب، وهي " الكهانة "! وهذا الأمر لم ينتبه له الأخ السائل في سؤاله، ولذا لم يتعرض للسؤال عنه.
وهذه المخالفة وقع فيها أصحاب تلك المزحة السخيفة، ووقع فيها – كذلك – من شارك في كتابة اسمه وأسماء ثلاثة ممن يريد معرفة درجة محبته لهم، أو درجة محبتهم له، وهذا الأمر غيبي لا يعلمه أحد إلا الله عز وجل، فادعاء أصحاب الموقع أنهم يستطيعون معرفة ذلك: كذبٌ في نفسه، وتصديق ذلك من قبَل المشارك ومشاركته فيه: يدخل في إثم إتيان الكهان وسؤالهم وتصديقهم، وهو إثم عظيم يصل بصاحبه إلى الكفر، فالعرَّافون والكهنة كذبة فجرة، ومع ذلك فقد نُهي المسلم عن إتيانهم وسؤالهم حتى لو لمجرد السؤال، ورتَّب على ذلك وعيداً، وإذا جاءهم وصدَّقهم: فالوعيد أعظم.
أما الوعيد الأول: فهو عدم قبول أجر صلاة أربعين يوماً.
عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) .
رواه مسلم (٢٢٣٠) .
وأما الوعيد الثاني: فهو الكفر.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) .
رواه الترمذي (١٣٥) وأبو داود (٣٩٠٤) وابن ماجه (٦٣٩) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
ومن ادعى علم الغيب: فهو كافر، ومن صدَّق مَن يدَّعي علمَ الغيب: فإنه كافر أيضاً؛ لقوله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) - النمل/من الآية ٦٥ -، فلا يعلم غيبَ السماوات والأرض إلا الله وحده، وهؤلاء الذين يدَّعون أنهم يعلمون الغيب في المستقبل: كل هذا من الكهانة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن مَن أتى عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) ، فإنْ صدَّقه: فإنَّه يكون كافراً؛ لأنه إذا صدَّقه بعلم الغيب: فقد كذَّب قوله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) .
"مجموع فتاوى الشيخ العثيمين" (١/٢٩٢) .
ثانياً:
ولو لم تكن تلك المزحة السخيفة تتعلق بادعاء علم الغيب: فإنها محرَّمة أيضاً؛ لأن فيها كذباً، وقد حثنا شرعنا الحنيف على الصدق في شأننا كله، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة/ ١١٩، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا) رواه البخاري (٥٧٤٣) ومسلم (٢٦٠٧) .
والمزاح في الإسلام مباح، والكذب فيه محرَّم، وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يمزح، ولا يقول في مزحه إلا حقّاً.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا، قَالَ: (إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا) .
رواه الترمذي (٩٩٠) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
ولذا: فإنه يحرم الكذب في المزاح.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَه) .
رواه أبو داود (٤٨٠٠) وحسَّنه الألباني في " صحيح أبي داود ".
ويحرم الكذب من أجل إضحاك الناس.
قالُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَه) .
رواه الترمذي (٢٣١٥) وأبو داود (٤٩٩٠) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح الترمذي ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - عقب هذا الحديث -:
وقد قال ابن مسعود: " إن الكذب لا يصلح في جَدٍّ، ولا هزل " ... .
وأما إن كان في ذلك ما فيه عدوان على المسلمين، وضرر في الدين: فهو أشد تحريماً من ذلك، وعلى كل حال: ففاعل ذلك – أي: مضحك القوم بالكذب - مستحق للعقوبة الشرعية التي تردعه عن ذلك.
" مجموع الفتاوى " (٣٢ / ٢٥٦) .
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله –:
ما حكم النكت في ديننا الإسلامي، وهل هي من لهو الحديث، علماً بأنها ليست استهزاء بالدين، أفتونا مأجورين؟ .
فأجاب:
" التفكه بالكلام والتنكيت إذا كان بحق وصدق: فلا بأس به، ولا سيما مع عدم الإكثار من ذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقّاً صلى الله عليه وسلم، أما ما كان بالكذب: فلا يجوز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ثم ويل له) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي بإسنادٍ جيِّدٍ " انتهى.
" فتاوى الشيخ ابن باز " (٦ / ٣٩١) .
ويحرم المزاح إن كان يؤدي إلى ترويع المسلم.
عنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لاعِبًا أَوْ جَادًّا، فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ، فَلْيَرُدَّهَا إِلَيْهِ) .
رواه الترمذي (٢٠٨٦) وأبو داود (٥٠٠٣) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح الترمذي ".
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى نبْلٍ مَعَهُ، فَأَخَذَهَا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ فَزِعَ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: مَا يُضْحِكُكُمْ؟ ، فَقَالُوا: لا، إلا أَنَّا أَخَذْنَا نبْلَ هَذَا فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا) .
رواه أحمد (٢٣٠٦٤) – واللفظ له - وأبو داود (٤٣٥١) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
وينظر جواب السؤال رقم (٢٢١٧٠) ففيه بيان شروط المزاح الشرعي بالتفصيل.
ويتبين لك أخي السائل المحاذير التي وقع فيها أولئك القوم جميعاً:
١. ادعاء علم الغيب من أصحاب الرسالة المرسَلة.
٢. والكذب الحاصل منهم.
٣. ترويع المرسَل له.
٤. تصديق المرسِل لوجود من يدَّعي علم الغيب.
٥. مشاركته في إرسال اسمه وأسماء غيره.
فالواجب على الجميع: التوبة النصوح، والكف عن هذه الأفعال السخيفة، والالتفات لأنفسهم ومعرفة جوانب التقصير عندهم ليكملوها، والاشتغال بالطاعات، ولا حرج في المزاح – كما سبق – على أن يكون وفق الضوابط الشرعية، لا وفق الأهواء.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب