للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

طول العمر وقصره

[السُّؤَالُ]

ـ[أبي رحمه الله توفى يوم ٢٧ من رمضان - أسكنه الله الجنة آمين - لم يتجاوز عمره السبعين عاما، وأسئلتي في نفس الموضوع هي: أولا: هل لكل منا عمر محدد لا يتجاوزه؟ ثانيا: هل يطيل الله العمر أو يقصره تبعا لصلاح أو فساد أفعال الإنسان؟ ثالثا: اذا أهمل شخص جسده ولم يأخذ الدواء، هل يحتمل أن يكون ذلك سببا أن يقصر الله عمره؟ رابعا: إذا كان عمر كل منا محددا، بغض النظر عن أفعالنا، فلماذا نتعاطى الأدوية؟ إذا كان العمر محددا ولن يموت الشخص قبل انتهاء أجله حتى ولو لم يأخذ الدواء.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

الموت والأجل من قضاء الله وقدره الذي كتبه في اللوح المحفوظ عنده سبحانه قبل أن يخلق الخلائق بخمسين ألف سنة، فلا يلحقه تغيير ولا تبديل؛ فقد كتبه سبحانه بعلمه الذي لا يخطئ، ومشيئته التي لا تتخلف.

يقول الله عز وجل:

(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) المنافقون/١٠-١١.

ويقول تبارك وتعالى:

(قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ. يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نوح/٢-٤.

وذلك لا يعني أن الموت والأجل غير خاضعين لقانون السببية الذي خلقه الله في هذا الكون، بل أَمْرُ الموت كسائر ما يقدَّر في هذه الدنيا مبنيٌّ على الأسباب المادية المكتوبة أيضا في اللوح المحفوظ.

فمن رغب أن يحفظ القرآن الكريم – مثلا – فلا بد أن يأخذ له أسبابه: من قراءة، ومراجعة، واستماع، وتَكرار، ونحو ذلك، فإذا استكمل هذه الأسباب أتمَّ الحفظ، وإن قَصَّرَ فيها لم يُتِمَّ ما أراد.

وعلم الله تعالى الأزلي محيطٌ بما سيكون من هذا الإنسان، فهو سبحانه يعلم إن كان سيجتهد في الحفظ والتلاوة أو سيقصر في ذلك، وأَمَرَ بِكَتبِ ذلك المعلوم الذي لا يخطئ في اللوح المحفوظ عنده سبحانه.

وكذلك الموت: له أسبابه المادية التي يعلمها جميع الناس، كالسقوط من شاهق، والجرح الغائر في المقاتل، والأمراض الخطيرة، ونحو ذلك.

كما له أسبابه المادية التي تؤخره وتؤجله: كحفظ الصحة، والبعد عن أماكن الخطر، ونحو ذلك.

وأيضا الأسباب المعنوية التي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنها تزيد في العمر وتمد الأجل، كالدعاء، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وأعمال البر كلها.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:

(مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ رِزْقُهُ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِى أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) . رواه البخاري (٢٠٦٧) ، ومسلم (٢٥٥٧)

وعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَاّ الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي العُمْرِ إِلَاّ البِرُّ)

رواه الترمذي (رقم/٢١٣٩) وقال: حسن غريب. وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (١٥٤)

فمن أتى بهذه الأسباب استحق زيادة العمر، ومن نقص أسباب الحياة فقد عرَّض نفسه للموت، وكل ذلك – سواء الأسباب أو المسببات – معلومة مكتوبة عند الله تعالى في ابتدائها وانتهائها، لا تتغير لأنها معلومة لله على ما ستكون، مهما غير العبد من أسبابه، رفعت عنها الأقلام، وجفت بها الصحف.

وهذا معنى قوله سبحانه:

(وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) فاطر/١١.

يقول ابن عباس في تفسير هذه الآية:

" ليس أحد قضيت له طول الحياة والعمر إلا هو بالغ ما قدرت له من العمر، قد قضيت ذلك، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له، لا يزاد عليه، ليس أحد قضيت له أنه قصير العمر ببالغ العمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله: (ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) ، يقول: كل ذلك في كتاب عنده " انتهى.

رواه البيهقي في "القضاء والقدر" (١/٢١٨)

يقول البيهقي رحمه الله:

" والمعنى في هذا أن الله جل ثناؤه قد كتب ما يصيب عبدا من عباده من البلاء والحرمان والموت وغير ذلك، وأنه إن دعا الله تعالى أو أطاعه في صلة الرحم وغيرها، لم يصبه ذلك البلاء، ورزقه كثيرا، وعمّره طويلا، وكتب في أم الكتاب ما هو كائن من الأمرين " انتهى.

"القضاء والقدر" (١/٢١١)

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

" إن الله أمر الملك أن يكتب أجلاً، وقال: إن وصل رحمه زدته كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر " انتهى.

"مجموع الفتاوى" (٨/٥١٧)

ويقول الشيخ ابن جبرين حفظه الله:

" اعلم: أن الآجال والأراق - كسائر الأشياء - مربوطة بقضاء الله وقدره، فالله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر؛ (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) الأعراف/٣٤.

فهذا أمر لا ريب فيه ولا شك، ومع ذلك، فهي أيضاً كغيرها: لها أسباب دينية، وأسباب طبيعية مادية، والأسباب تبع قضاء الله وقدره، فمن الأسباب الدينية لطول العمر، وسعة الرزق: لزوم التقوى والإحسان إلى الخلق، لاسيما الأقارب.

كما ثبت في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره - أي يطيل عمره - فليصل رحمه) .

وذلك: أن الله يجازي العبد من جنس عمله؛ فمن وصل رحمه: وصل الله أجله ورزقه، وصلاً حقيقياً. وضده: من قطع رحمه، قطعه الله: في أجله وفي رزقه.

قال تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب) الطلاق/٢

ومن الأسباب الدينية لقطع طول العمر: البغي والظلم للعباد. فالباغي سريع المصرع، والظالم لا يغفل الله عن عقوبته، وقد يعاقبه عاجلاً بقصم العمر " انتهى.

نقلا عن موقعه على هذا الرابط:

http://www.ibn-jebreen.com/book.php?cat=١&book=٦٩&toc=٤٤٦٨&page=٤٠٣٦&subid=٢٩٢٩٥

فالتداوي من الأسباب المادية المحسوسة التي تحفظ للإنسان عمره وصحته بإذن الله، وإذا أهمل قد يؤدي إلى الضرر أو الوفاة، وذلك لا يتعارض بأي وجه مع ما تقرره الآيات والأحاديث أن الأجل والعمر محدود، فهو محدود بأسبابه، وكل شيء عنده سبحانه وتعالى بمقدار، فإن تداوى المرء وتعافى فطالت أيامه في هذه الدنيا فذلك بقدر الله، وإن قصر أو ترك التداوي حتى قضى أجله فهو بقدر الله كذلك.

عَنْ أَبِي خُزَامَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا؛ هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟

قَالَ: (هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ) رواه الترمذي (٢٠٦٥) وابن ماجة (٣٤٣٧) ، وروي موقوفا. قال الترمذي: هذا أصح.

نسأل الله أن يتغمد والدك برحمته، وأن يرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه.

وانظر جواب السؤال رقم في حكم التداوي: (٢١٤٨) ، (٢٤٣٨) ، (١٣٢٧٢)

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>