كيف يتيقن الإنسان من صحة إيمانه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يتأكد الإنسان من صحة إيمانه وهو في شك عظيم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى: (ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) العنكبوت/١-٣
قال السعدي رحمه الله:
" يخبر تعالى عن تمام حكمته وأن حكمته لا تقتضي أن كل من قال " إنه مؤمن " وادعى لنفسه الإيمان، أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن، ولا يعرض لهم ما يشوش عليهم إيمانهم وفروعه، فإنهم لو كان الأمر كذلك، لم يتميز الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل، ولكن سنته وعادته في الأولين وفي هذه الأمة، أن يبتليهم بالسراء والضراء، والعسر واليسر، والمنشط والمكره، والغنى والفقر، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن، التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة، والشهوات المعارضة للإرادة، فمن كان عند ورود الشبهات يثبت إيمانه ولا يتزلزل، ويدفعها بما معه من الحق، وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب، أو الصارفة عن ما أمر الله به ورسوله، يعمل بمقتضى الإيمان، ويجاهد شهوته، دل ذلك على صدق إيمانه وصحته.
ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكا وريبا، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات، دلَّ ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه.
والناس في هذا المقام درجات لا يحصيها إلا الله، فمستقل ومستكثر " انتهى.
"تفسير السعدي" (ص ٦٢٦)
فمن عصفت بقلبه الفتن عند ورودها، ولم يستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهي كلمة التوحيد ولوازمها، وجعل قلبه يتنقل بكل واد، وإنما أمره في الحيرة والتردد، وحاله حال المذبذبين المتحيرين، فتارة مع هؤلاء، وتارة مع هؤلاء، وتارة لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، ذو قلب محجوب، لا يتخلله الوعظ، ولا يثبت على الصراط؛ فمن كانت هذه حاله فليت أمه لم تلده، إلا أن يتداركه الله برحمته، فيغفر زلته، ويقيل عثرته.
فليبادر عبد خاف على نفسه، ونصح لها: أن يعود إلى الله، وإلى الإيمان به وبرسوله، وإلى اليقين بموعوده، وإلى التصديق بكتابه، وإلى الكفر بالطاغوت وأوليائه، وإلى موالاة أولياء الرحمن صفوة خلقه، ومعاداة أولياء الشيطان.
روى مسلم (١١٨) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا)
وروى الإمام أحمد (١٥٤٨٩) والحاكم (٩٦) عَنْ كُرْزٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل للإسلام من منتهى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم أيما أهل بيت من العرب والعجم أراد الله بهم خيرا أدخل عليهم الإسلام، ثم تقع الفتن كأنها الظلل) صححه الألباني في الصحيحة" (٥١) .
أما حال المؤمنين فهو حال المصدقين الموقنين، الذين يقولون سمعنا وأطعنا، لا تزيدهم الفتن إلا إيمانا ويقينا، فكيف بدواعي الإيمان من الكلم الطيب والعمل الصالح؟
(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) التوبة /١٢٤، ١٢٥
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) الإسراء/٨٢
(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) الأحزاب / ٢٢
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْ الدَّجَّالِ فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنْ قَالَ: (يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَهُ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ لَا. فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ. فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَقْتُلُهُ. فَلَا أُسَلَّطُ عَلَيْهِ) متفق عليه، واللفظ للبخاري (١٨٨٢)
فهذه حال المؤمن: على خير حال، في كل حال، يزداد بالطاعة إيمانا، ولا تضره فتنة ما اختلف الليل والنهار، روى مسلم (١٤٤) عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) .
قال النووي:
" قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الرَّجُل إِذَا تَبِعَ هَوَاهُ وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِي دَخَلَ قَلْبه بِكُلِّ مَعْصِيَة يَتَعَاطَاهَا ظُلْمَة , وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ اُفْتُتِنَ وَزَالَ عَنْهُ نُور الْإِسْلَام. وَالْقَلْب مِثْل الْكُوز فَإِذَا اِنْكَبَّ اِنْصَبَّ مَا فِيهِ، وَلَمْ يَدْخُلهُ شَيْء بَعْد ذَلِكَ " انتهى.
والخلاصة:
أن العبد ما دام يسمع ويطيع لمولاه، ويوالي فيه، ويعادي فيه، ولا شيء أحب إليه من طاعة سيده ومولاه، ولا أكره لديه من عصيانه والبعد عن صراطه، ولا تزيده الفتن إلا تعلقا به إيمانا ويقينا، فهو المؤمن حقا.
وقد روى الإمام أحمد (١٧٨) عن عُمَر رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ تَسُرُّهُ حَسَنَتُهُ وَتَسُوءُهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ) صححه الألباني في الصحيحة (٤٣٠)
ومن انشغل بالهوى عن الهدى، وآثر محبة عدوه على طاعة ربه، وكلما وردت فتنة عصفت بقلبه، ثم لا يزال في الشك والحيرة، قليل الحظ من اليقين: فذاك مدخول الإيمان.
وقول السائل: "وهو في شك عظيم":
إن كان يقصد أنه في شك عظيم من إيمانه بالله: فمن شك في الإيمان فليس بمؤمن.
وإن كان يقصد أنه في شك من صحة إيمانه، هل هو مؤمن أم لا؟
فقد قدمنا ما يستطيع به أن يتأكد من ذلك، إثباتا ونفيا.
فإن كان السائل في شك من دينه، وله في ذلك من نفسه أمارات فليتق الله، وليراجع نفسه، وليقبل على ربه وعلى طاعته، ولا يلتفت إلى ما يعرض له من الشبهات، وليصاحب أهل الإيمان، ولا يصاحب أهل العصيان وأهل الكفران، ولا يسمع لهم، ولا يقرأ لهم، وليرض بالله ودينه ورسوله.
أما إن كان ما يعرض له مجرد هواجس نفسية، أو وساوس شيطانية، فلا يلتفت إليها، ولينصرف عنها، وليقبل على الله.
وقد روى البخاري (٣٢٧٦) ومسلم (١٣٤) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ) .
قال النووي:
" َمَعْنَاهُ: إِذَا عَرَضَ لَهُ هَذَا الْوَسْوَاس فَلْيَلْجَأْ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي دَفْع شَرّه عَنْهُ , وَلْيُعْرِضْ عَنْ الْفِكْر فِي ذَلِكَ , وَلْيَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخَاطِر مِنْ وَسْوَسَة الشَّيْطَان , وَهُوَ إِنَّمَا يَسْعَى بِالْفَسَادِ وَالْإِغْوَاء فَلْيُعْرِضْ عَنْ الْإِصْغَاء إِلَى وَسْوَسَته وَلْيُبَادِرْ إِلَى قَطْعهَا بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا "
انتهى.
وإن من علامات صلاح القلب عن تلك الوساوس الشيطانية، والعوارض الإبليسية أن يستعظم أمرها، حتى لو خير بين أن تستقر في نفسه تلك الخواطر الرديئة، وبين الموت، لكان الموت أحب إليه من ذلك:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ، لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ؟!
فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ؛ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ)
رواه أبو داود (٥١١٢) ، وصححه الألباني.
نسأل الله - لنا ولإخواننا المسلمين - أن يثبت قلوبنا على دينه.
للاستزادة: تراجع إجابة السؤال رقم: (٨٢٨٦٦) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب