المريض إذا رفض العلاج وصبر هل يحصل الأجر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كنت أنا مريضا، لا سمح الله، بمرض مستعصٍ؛ فرفضت العلاج وصبرت، هل يحصل لي الأجر العظيم؟ وهل يدخل هذا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". وحديث (إني امرأة أصرع فأتكشف فادعو الله لي..) .الخ]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
ينبغي أن تعلم أنه لا مرض يستعصي على الله تعالى، فالله الذي أنزل الداء أنزل الدواء، علمه من علمه، وجهله من جهله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله عز وجل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله) رواه أحمد وحسنه الألباني في غاية المرام برقم (٢٩٢) .
فليعظم رجاؤك فيما عند الله تعالى، ولتحسن الظن به، أنه شافيك ومعافيك ومنعم عليك، فإنه سبحانه عند ظن عبده به.
والمرض ابتلاء يبتلي الله به عبده، لحكم كثيرةٍ جليلة، انظر طرفا منها في جواب السؤال رقم (٢١٦٣١)
ثانيا:
اختلف العلماء في حكم التداوي، فذهب جمهورهم إلى عدم وجوبه، وذهب جماعة منهم إلى وجوبه إذا خشي الإنسان على نفسه التلف بتركه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " ليس بواجب عند جماهير الأئمة، إنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد " نقله السفاريني في غذاء الألباب (١/٤٥٩) .
وقال في "تحفة المحتاج" (٣/١٨٢) : " ونقل عياض الإجماع على عدم وجوبه، واعتُرض بأن لنا وجهاً بوجوبه إذا كان به جرح يخاف منه التلف، وفارق وجوب نحو: إساغة ما غص به بخمر، وربط محل الفصد؛ لتيقن نفعه " انتهى.
وفي حاشيته: " في باب ضمان الولاة من الأنوار عن البغوي أنه إذا علم الشفاء في المداواة وجبت " انتهى.
وفي حاشية قليوبي وعميرة" (١/٤٠٣) : " وقال الإسنوي: يحرم تركه في نحو جرح يظن فيه التلف كالقصد " انتهى.
وما ذكروه من الفرق بين التداوي وبين إساغة الغصة ولو بالخمر، أو ربط الفصد، والحكم بوجوب هذين لتيقن نفعهما، يفيد بأن الدواء إذا تُيقن نفعه وجب، إذا كان المرض مما يخشى منه التلف، فيدخل في ذلك إيقاف النزيف، وخياطة الجروح، وبتر العضو التالف المؤدي إلى تلف بقية البدن، ونحو ذلك مما يجزم الأطباء بنفعه وضرورته، وأن تركه يؤدي إلى التلف أو الهلاك.
وقد أخذ مجمع الفقه الإسلامي بالقول بوجوب التداوي إذا كان تركه يفضي إلى تلف النفس أو أحد الأعضاء أو العجز، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية. انظر نص قرار المجمع في جواب السؤال رقم (٢١٤٨) .
وبناء على ذلك: فإن كان المرض المسئول عنه مما يؤدي إلى تلف النفس أو أحد الأعضاء، في حال ترك التداوي، فإنه يجب أخذ الدواء، ولا يجوز الإعراض عنه، في قول من ذكرنا من الشافعية، وما اختاره علماء مجمع الفقه الإسلامي.
وإن كان المرض لا يبلغ هذا المبلغ، فيجوز أخذ الدواء، كما يجوز تركه، واختلف العلماء في أيهما أفضل، والنصوص تدل على أن التداوي أفضل، وهو قول الجمهور، قال السفاريني رحمه الله في "غذاء الألباب" (١/٤٥٧) : " وقيل فعل التداوي أفضل من تركه , وبه قال بعض الشافعية. وذكر الإمام النووي في شرح مسلم أنه مذهب الشافعية وجمهور السلف وعامة الخلف , وقطع به ابن الجوزي من أئمتنا في المنهاج والقاضي وابن عقيل وغيرهم , واختاره الوزير بن هبيرة في الإفصاح. قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب. ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه , فإنه قال لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه " انتهى.
ثالثا:
التداوي لا ينافي التوكل على الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تداوى، وأرشد أمته إلى التداوي، وهو سيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله: " في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ـ كما يقدح في الأمر والحكمة ـ ويضعفه، من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا، ولا توكله عجزا " انتهى من " زاد المعاد " (٤ / ١٥) .
رابعا:
أما حديث الصحيحين: (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) البخاري (٦٤٧٢) ومسلم (٢١٨) ففيه استحباب ترك الاسترقاء أي طلب الرقية من الغير، وليس فيه تعرض لحكم التداوي بالأدوية النافعة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " ولا يدخل في ذلك من عرض نفسه على الطبيب للدواء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: لا يتداون؛ بل قال: (لا يكتوون ولا يسترقون) اللهم إلا أن يعلق الإنسان قلبه بالطبيب، ويكون رجاؤه وخوفه من المرض متعلقا بالطبيب، فهذا ينقص توكله على الله عز وجل، فينبغي للإنسان إذا ذهب إلى الأطباء أن يعتقد أن هذا من باب بذل الأسباب، وأن المسبب هو الله سبحانه وتعالى وحده، وأنه هو الذي بيده الشفاء، حتى لا ينقص توكله ". فتاوى نور على الدرب (٣/٢١٣) .
خامسا:
وأما حديث المرأة التي كانت تصرع وتتكشف، ولفظه: عن عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ؛ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي.
قَالَ: إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ!!
فَقَالَتْ: أَصْبِرُ. فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ؛ فَدَعَا لَهَا)
رواه البخاري (٥٦٥٢) ومسلم (٢٥٧٦) .
فهذا الحديث يدل على جوزا ترك التداوي في مثل هذه الحال، لمن قويت عزيمته وقدر على ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وَفِي الْحَدِيث فَضْل مَنْ يُصْرَع , وَأَنَّ الصَّبْر عَلَى بَلَايَا الدُّنْيَا يُورِث الْجَنَّة , وَأَنَّ الْأَخْذ بِالشِّدَّةِ أَفْضَل مِنْ الْأَخْذ بِالرُّخْصَةِ، لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسه الطَّاقَة وَلَمْ يَضْعُف عَنْ اِلْتِزَام الشِّدَّة , وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز تَرْك التَّدَاوِي , وَفِيهِ أَنَّ عِلَاج الْأَمْرَاض كُلّهَا بِالدُّعَاءِ وَالِالْتِجَاء إِلَى اللَّه أَنْجَع وَأَنْفَع مِنْ الْعِلَاج بِالْعَقَاقِيرِ , وَأَنَّ تَأْثِير ذَلِكَ وَانْفِعَال الْبَدَن عَنْهُ أَعْظَم مِنْ تَأْثِير الْأَدْوِيَة الْبَدَنِيَّة , وَلَكِنْ إِنَّمَا يَنْجَع بِأَمْرَيْنِ: أَحَدهمَا مِنْ جِهَة الْعَلِيل وَهُوَ صِدْق الْقَصْد , وَالْآخَر مِنْ جِهَة الْمُدَاوِي وَهُوَ قُوَّة تَوَجُّهه وَقُوَّة قَلْبه بِالتَّقْوَى وَالتَّوَكُّل , وَاَللَّه أَعْلَم " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب