النبي صلى الله عليه وسلم وبناء المجتمع الإسلامي
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف وإلى أي حد نجح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في إنشاء مجتمع مستقر في المدينة عام ٦٣٢ ميلادي.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لاشك أن المجتمع الذي أنشأه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة هو مثال للمجتمعات الآمنة المستقرة، وقد ظهر ذلك جليّاً منذ أن وطىء النبي صلى الله عليه وسلم بقدمه المدينة وبدأ في تكوين الدولة، ويرجع أمن واستقرار المجتمع هذا إلى عدة أسباب وعوامل، منها:
أولاً:
بناؤه صلى الله عليه وسلم للمسجد في المدينة أوّل قدومه مما ساعد في إيجاد مرجع يُلجأ إليه حين النوازل، ومكان يجتمع فيه المسلمون يسأل بعضهم عن بعض، ويعرف بعضهم أحوال بعض، فيعاد مريضهم، وتتبع جنازة ميتهم، ويعان مسكينهم، ويزوج أعزبهم.
وهذه بعض الأحاديث في ذلك:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: لمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أمر ببناء المسجد، وقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. رواه البخاري (٢٦٢٢) ومسلم (٥٢٤) .
عن البراء بن عازب: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته وكان الرجل يأتي بالقِنو والقنوين فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة – وفي رواية ابن ماجه " فقراء المهاجرين " - ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط من البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف وبالقنو قد انكسر فيعلقه، فأنزل الله تبارك تعالى {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} قال: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلا على إغماض أو حياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده. رواه الترمذي (٢٩٨٧) وابن ماجه (١٨٢٢) . وصححه الألباني في صحيح الترمذي (٢٣٨٩) .
القِنو: العذق الذي فيه الرطب. الشيص: النخل غير الملقح. الحَشَف: تمر يابس فاسد.
ثانياً:
إيخاؤه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرن والأنصار، وقد قوَّى هذا الفعل بين أفراد المجتمع المدني بما لم يُسمع بمثله، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين العجمي والعربي، وبين الحر والمولى، وبين القرشي ومن دونه من أهل القبائل، فصار المجتمع لحمة واحدة، وجسداً واحداً، فلم يستغرب بعدها أن يطلب الأنصاري من المهاجر أن يتقاسم معه ماله نصفين، وأن يعرض الأنصاري على المهاجر إحدى نسائه ليطلقها له ويتزوجها، وكان المهاجر يرثُ الأنصاريَّ لقوة ما بينهم من العلاقة، ثم نسخ التوارث بينهما بآية المواريث، ورُغِّب الأنصار أن يوصوا لهم بشيء، فبمثل هذا المجتمع تضرب الأمثال.
وهذه بعض الأحاديث في ذلك:
١- عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: لمَّا قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً فأقْسِم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويتَ نزلتُ لك عنها، فإذا حلَّت تزوجتَها، قال: فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع، قال: فغدا إليه عبد الرحمن فأتى بأقط وسمن، قال: ثم تابع الغدو فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوجتَ؟ قال: نعم، قال: ومن؟ قال: امرأة من الأنصار، قال: كم سقت؟ قال: زنة نواة من ذهب – أو نواة من ذهب - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوْلِم ولو بشاة. رواه البخاري (١٩٤٣) .
٢- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المهاجرون لمَّا قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت {ولكل جعلنا موالي} نسخت ثم قال {والذين عقدت أيمانكم} إلا النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له. رواه البخاري (٢١٧٠) .
ثالثاً:
شرعت الزكاة في السنة الثانية للهجرة، فصارت المواساة بين الأغنياء للفقراء مما جعل اللحمة تزداد بين المجتمع المدني، وأواصر الأخوة في الله تقوى أكثر من ذي قبل، بل تعدى الأمر من إيتاء الزكاة إلى صدقة التطوع.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه " بيرحاء "، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما أُنزلت هذه الآية {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب أموالي إلي " بيرحاء " وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذُخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخٍ ذلك مال رابح، ذلك مال ربح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. رواه البخاري (١٣٩٢) ومسلم (٩٩٨) .
وقد ظهرت علامات التآلف بين المسلمين في المدينة، وعرف المهاجرون حق إخوانهم الأنصار عليهم، وفي ذلك بعض الأحاديث ومنها:
عن أنس قال: لما قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ أتاه المهاجرون، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قوماً أبذلَ مِن كثيرٍ ولا أحسنَ مواساةً مِن قليلٍ من قومٍ نزلنا بين أظهرهم، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنإ، حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم. رواه الترمذي (٢٤٨٧) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (٢٠٢٠) .
وقد ألّف الله بين قلوب أهل المجتمع المدني، وكان الحب في الله تعالى من شعارات القوم، وقد أوجبه الله عليهم، وجعله من علامات كمال الإيمان.
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ". رواه البخاري (١٣) ومسلم (٤٥) .
عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى ".
رواه البخاري (٥٦٦٥) ومسلم (٢٥٨٦) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب