للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أسئلة في طلب العلم

[السُّؤَالُ]

ـ[أنا طالب في كلية الهندسة، عمري (١٩ عاما) ، نويت وقررت أن أتفقه في ديني وأطلب العلم الشرعي، وأجمع بين العلمين، فاقتنيت الكتب التي أوصيت بها لطالب العلم المبتدئ كلها، كما في السؤال رقم (٢٠١٩١) ، وأفهم منها الكثير والحمد لله. وقد نبهت حفظك الله بأن أبدأ بحفظ القرآن الكريم، لكني أجد مشقة كبيرة في الحفظ للأسف، ولا أجد ذلك في حفظي الأحاديث، ولا أعلم السبب، فالسؤال هنا على عدة نقاط: ١. هل أستطيع أن أوفق بين العلمين (الهندسة والعلم الشرعي) ؟ ٢. هل أستطيع أن أتنقل بين فروع العلم الشرعي قبل أن أكمل الفرع السابق، على سبيل المثال: أقرأ في الأصول الثلاثة في العقيدة، ثم أنتقل لكتاب شرح الآجرومية للشيخ محمد العثيمين رحمه الله قبل أن أنهي الأصول الثلاثة، وذلك حتى أخفف من حدة الروتين. هل يكفي حفظ الأدلة من النصوص القرآنية من غير حفظ القرآن (أقصد حفظ السور) ؟ علما أنه لا يوجد هناك مشقة في حفظ الأدلة مع الفهم. أرجو ذكر أسماء الأشرطة التي تنصح فيها لشرح الدروس، لا المحاضرات العامة كما نبهت لذلك في السؤال رقم (١٠٤١٧٤) . أرجو إفادتي بذكر أسماء بعض الكتب الموثوقة في سرد حياة السلف الصالح، بداية من الحبيب صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة الكرام، وذلك لما في الكتب الكثير من التدليس والكذب نسأل الله السلامة والعافية. ٣. هل من كتاب مبسط موثوق يشرح كتاب " عمدة الفقه " لطالب العلم المبتدئ، وكتاب آخر يشرح كتاب " عمدة الأحكام "، علما أني أجد بعض الصعوبة في فهمهما.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

نسأل الله تعالى لنا ولك التوفيق والعون والسداد.

واعلم ـ أخانا الكريم ـ أن طريق طلب العلم الشرعي طريق طويل، يقتضي منك الصبر والأناة والمثابرة، فالعلم لا يأتي جملة، وإنما مع الأيام والليالي، بشرط الحرص والمتابعة، والحذر من الفتور والانقطاع.

ونبشرك بإمكان تحصيل قدر من العلم الشرعي الجيد مع التخصص الدنيوي، لكن بشرط استمرار الهمة العالية على الدوام، والمحافظة على قدر معتدل من المطالعة والدراسة الشرعية.

أما إذا ملك التخصص الدنيوي على الطالب وقته وعمره، ولم يكد يجد في اليوم الساعة أو الساعتين للقراءة الشرعية، ثم يريد أن يصبح فقهيا أو محدثا أو متخصصا في العلوم الشرعية في سنوات معدودة: فذلك أمر لا يقع في سنن الله المعهودة؛ لأن العلم الشرعي يستغرق عمر الإنسان إن سلكه فيه، فكيف إن أعطاه الفضلة من وقته فقط.

وقد كان العلماء في القديم ينبهون الطلاب إلى ضرورة تفريغ القلب عن الشواغل والعلائق، كي تصفو القريحة، وتنجلي النفس لاستظهار العلوم الشرعية، وفهمها، والزيادة عليها، وتحقيق الصحيح منها، وإدراك أحكام النوازل، إلى جانب الدعوة إليها، والعمل بما فيها، فالعلم الشرعي مدرسة، بل حياة كاملة تنقضي الأعمار، وتنطوي الأجيال، ولا تنقضي دقائقه وأسراره.

عقد الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (٢/٤٢٥) بابا جاء فيه: " باب حذف المتفقه العلائق: كان بعض الفلاسفة لا يُعَلِّمُ أحدا يتعلق بشيء من الدنيا، ويقول: العلم أجَلُّ مِن أَن يُشتغَلَ عنه بغيره – ثم روى بسنده عن مليح بن وكيع قال -: سمعت رجلا، يسأل أبا حنيفة: بم يستعان على الفقه حتى يحفظ؟ قال: بجمع الهم. قال: قلت: وبم يستعان على حذف العلائق؟ قال: بأخذ الشيء عند الحاجة ولا تزد.

كما روى بسنده في "الفقيه والمتفقه" (٢/٤٦٦) عن إبراهيم بن سيار النظام قال: " العلم: شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وأنت إذا أعطيته كلك، من إعطائه البعض على خطر " انتهى.

ومع ذلك لا ينبغي لمن سلك سبيل التخصصات الدنيوية أن ييأس من تحصيل العلم الشرعي، فالأيام تتقلب، والظروف تختلف، وإن لم يجد الوقت الكافي للطلب اليوم، لعله يجده غدا، أما إن كان يجد الوقت الكافي فلا ينبغي له أن يضيع على نفسه الفرصة، وليحرص على تحصيل الفوائد وضبط المسائل، وهو في ذلك كله يتدرج بالمسألة والمسألتين، ولا يستعجل الضبط والتمكين، فالأمر يحتاج إلى سنوات وسنوات.

عن حصين، قال: جاءت امرأة إلى حلقة أبي حنيفة، وكان يطلب الكلام، فسألته عن مسألة له ولأصحابه، فلم يحسنوا فيها شيئا من الجواب، فانصرفت إلى حماد بن أبي سليمان، فسألته فأجابها، فرجعت إليه، فقالت: غررتموني، سمعت كلامكم، فلم تحسنوا شيئا.

فقام أبو حنيفة فأتى حمادا، فقال له: ما جاء بك؟ قال: أطلب الفقه. قال: تعلم كل يوم ثلاث مسائل ولا تزد عليها شيئا حتى يتفق لك شيء من العلم، ففعل، ولزم الحلقة حتى فقه، فكان الناس يشيرون إليه بالأصابع.

يقول الخطيب البغدادي بعد رواية هذه القصة:

" وينبغي له أن يتثبت في الأخذ ولا يكثر، بل يأخذ قليلا قليلا، حسب ما يحتمله حفظه، ويقرب من فهمه، فإن الله تعالى يقول: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) .

وينبغي أن يراعي ما يحفظه، ويستعرض جميعه كلما مضت له مدة، ولا يغفل ذلك، فقد كان بعض العلماء إذا علم إنسانا مسألة من العلم، سأله عنها بعد مدة، فإن وجده قد حفظها علم أنه محب للعلم، فأقبل عليه وزاده، وإن لم يره قد حفظها، وقال له المتعلم: كنت قد حفظتها فأنسيتها، أو قال: كتبتها فأضعتها، أعرض عنه ولم يعلمه " انتهى.

"الفقيه والمتفقه" (٢/٤٦٢-٤٦٤)

وهذا كله من باب مسايسة النفس لحملها على المواصلة والمثابرة، ومن ذلك أيضا التنقل بين نوعين فأكثر من أنواع العلوم، لدفع السآمة والملل، واستجلاب القوة والنشاط، وهو أسلوب مستعمل لدى العلماء الأولين، لكن بشرط التأني في ضبط المسائل وحفظها ومراجعتها، وليس تنقلا عبثيا يحمل عليه العجلة والاضطراب.

ومن حسن التعلم أيضا أخذ المسائل والعلوم على قدر الوسع والطاقة، فلا يتكلف الطالب حفظ ما يعد غاية في الصعوبة في عرف العلماء، كذلك الطالب الذي يكابد لحفظ آيات القرآن الكريم، ثم تجده يشرع في حفظ أسانيد الأحاديث، أو أبيات المنظومات المطولة، وهو يتعثر في حفظ كلام الله عز وجل، فذلك خطأ منهجي ظاهر.

وذلك لا يعني قعود الطالب عن الحفظ بدعوى العجز، بل ينبغي المثابرة والمصابرة، وخاصة إذا كان المقصود حفظ القرآن الكريم، فحفظ أكثره واستظهار آياته ضروري لكل مسلم، فكيف لطالب العلوم الشرعية، أما إن عجز عن الحفظ ويئس، فلا أقل من حفظ المفصل من القرآن، وهو من سورة " ق" حتى ختام المصحف، على المشهور، يستعين به على عبادته وصلاته، ويعمر به فؤاده، ثم حفظ آيات الأحكام، والإكثار من القراءة والتأمل في كلام الله عز وجل.

يقول الخطيب البغدادي رحمه الله:

" اعلم أن القلب جارحة من الجوارح، تحتمل أشياء، وتعجز عن أشياء، كالجسم الذي يحتمل بعض الناس أن يحمل مائتي رطل، ومنهم من يعجز عن عشرين رطلا، وكذلك منهم من يمشي فراسخ في يوم، لا يعجزه، ومنهم من يمشي بعض ميل، فيضر ذلك به، ومنهم من يأكل من الطعام أرطالا، ومنهم من يتخمه الرطل فما دونه.

فكذلك القلب: مِن الناس مَن يحفظ عشر ورقات في ساعة، ومنهم من لا يحفظ نصف صفحة في أيام، فإذا ذهب الذي مقدار حفظه نصف صفحة يروم أن يحفظ عشر ورقات تشبها بغيره لحقه الملل، وأدركه الضجر، ونسي ما حفظ، ولم ينتفع بما سمع، فليقتصر كل امرئ من نفسه على مقدارٍ يبقى فيه ما لا يستفرغ كل نشاطه، فإن ذلك أعون له على التعلم من الذهن الجيد والمعلم الحاذق.

قال بعض الحكماء: إن لهذه القلوب تنافرا كتنافر الوحش، فألفوها بالاقتصاد في التعليم، والتوسط في التقويم، لتحسن طاعتها، ويدوم نشاطها، ولا ينبغي أن يُمْرِج نفسه [أي: يرسلها بلا ضابط] فيما يستفرغ مجهوده، وليعلم أنه إن فعل ذلك فتعلم في يوم ضعف ما يحتمل أضر به في العاقبة، لأنه إذا تعلم الكثير الذي لا طاقة له به، وإن تهيأ له في يومه ذلك أن يضبطه، وظن أنه يحفظه، فإنه إذا عاد من غد وتعلم نسي ما كان تعلمه أولا، وثقلت عليه إعادته، وكان بمنزلة رجل حمل في يومه ما لا يطيقه، فأثر ذلك في جسمه، ثم عاد من غد، فحمل ما يطيقه فأثر ذلك في جسمه، وكذلك إذا فعل في اليوم الثالث، ويصيبه المرض وهو لا يشعر.

ويدل على ما ذكرته: أن الرجل يأكل من الطعام ما يرى أنه يحتمله في يومه مما يزيد فيه على قدر عادته، فيعقبه ذلك ضعفا في معدته، فإذا أكل في اليوم الثاني قدر ما كان يأكله أعقبه لباقي الطعام المتقدم في معدته تخمة.

فينبغي للمتعلم أن يشفق على نفسه من تحميلها فوق طاقتها، ويقتصر من التعليم على ما يبقي عليه حفظه، ويثبت في قلبه.

وينبغي أن يجعل لنفسه مقدارا، كلما بلغه وقف وقفة أياما لا يزيد تعلما، فإن ذلك بمنزلة البنيان: ألا ترى أن من أراد أن يستجيد البناء، بناه أذرعا يسيرة، ثم تركه حتى يستقر، ثم يبني فوقه، ولو بنى البناء كله في يوم واحد لم يكن بالذي يستجاد، وربما انهدم بسرعة، وإن بقي كان غير محكم، فكذلك المتعلم ينبغي أن يجعل لنفسه حدا، كلما انتهى إليه وقف عنده، حتى يستقر ما في قلبه، ويريح بتلك الوقفة نفسه، فإذا اشتهى التعلم بنشاط عاد إليه، وإن اشتهاه بغير نشاط لم يعرض له " انتهى باختصار.

"الفقيه والمتفقه" (٢/٤٨١-٤٨٣) .

وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

" الناس طبقات في العلم، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم فيه، فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في إدراك علمه، نصا واستنباطا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه " انتهى.

"الفقيه والمتفقه" (٢/٤٦٥) .

أما الأشرطة العلمية التي ننصحك بها فهي أشرطة العلماء المعاصرين المشهورين، كأشرطة الشيخ ابن عثيمين، احرص عليها كلها، وغيره من العلماء والمتخصصين الذين تجد شروحاتهم العلمية في موقع طريق الإسلام ومكتبة المشكاة، فتجد فيها أيضا إن شاء الله شروحا مهمة لعمدة الفقه وعمدة الأحكام وغيرها من الكتب الفقهية.

وفي أبواب سير العلماء يمكنك قراءة كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، فهو من أوسع وأشمل ما كتب في هذا الموضوع، فإن وجدته طويلا فقد اختصره بعض المعاصرين في أربعة مجلدات، يمكن لمن لا يجد الوقت الكافي القراءة منه، ولكنا ننصح بقراءة الكتاب نفسه على ما فيه من طول، ففيه فوائد تربوية وفقهية وحديثية وتاريخية كثيرة.

واستعن بالله تعالى ربك أن يعينك على هذه العبادة – طلب العلم –، وداوم على دعائه بأن ييسر لك الصعب ويسهله، ولا تنس الإخلاص في الطلب فهو سر النجاح والتوفيق في الدارين.

وأما شروح عمدة الأحكام المعاصرة فمن أيسرها وأقربها: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، للشيخ عبد الله البسام، رحمه لله، وهناك شروح صوتية مسجلة لعدد من أهل العلم عليه، ومن أوسعها شرح الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي حفظه الله.

وللشيخ البسام رحمه الله أيضا تعليقات مختصرة على عمدة الفقه، مع أهمية الاستعانة بالشروح المسموعة لها، مثل شرح الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله، وغيره من أهل العلم الذين شرحوها، وهي كثيرة جدا.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>