هل سبب القحط هو المعاصي والآثام أم الأحوال الجوية؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[أحد الزملاء قال لي: سبب عدم نزول المطر هو المناخ، والحالة الجوية للمنطقة، ولا علاقة للذنوب بهذا الأمر! ، فقلت له: قول الله على لسان نوح (فقلت استغفروا ربكم ... ) الآيات، لكنه لم يقتنع بالدليل الشرعي، ورد بدليل عقلي قائلا: مكة، والمدينة، تعانيان من القحط، بينما " أبها "، ودول الشام لا ينقطع عنها المطر، ولا أظن أن أهل الشام أقل ذنوباً من مكة، والمدينة، أما قصة نوح فربما لها تأويل آخر. السؤال: كيف أرد على زميلي بدليل عقلي؟ وهل هو على خطر؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
كما ذكرتَ لزميلك أن سبب حبس المطر هو الذنوب والمعاصي؛ فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا يُرفع إلا بتوبة، وهذا قد قرره الله تعالى في القرآن الكريم كثيراً , ومن ذلك:
قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم/٤١.
وقال تعالى: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) الجن/١٦.
وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأعراف/ ٩٦.
قال ابن كثير رحمه الله:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) أي: آمنت قلوبهم بما جاءتهم به الرسل، وصدَّقت به، واتبعته، واتقوا بفعل الطاعات، وترك المحرمات:
(لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) أي: قطر السماء، ونبات الأرض.
قال تعالى: (وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أي: ولكن كذبوا رسلهم، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم، والمحارم.
"تفسير ابن كثير" (٣/٤٥١) .
ومن السنَّة:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ:
لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَاّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا.
وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَاّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ.
وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَاّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا.
وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَاّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ.
وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَاّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) .
رواه ابن ماجه (٤١٥٥) ، وحسَّنه الألباني في "صحيح ابن ماجه".
ومن أقوال السلف:
قال أبو هريرة رضي الله عنه:
إن الحباري – نوع من الطيور - لتموت في وكرها من ظلم الظالم.
وقال مجاهد رحمه الله: إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السَنَة – أي: القحط - وأمسك المطر , وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم.
وقال عكرمة رحمه الله:
دواب الأرض وهوامها، حتي الخنافس، والعقارب يقولون: مُنعنا القطر بذنوب بني آدم.
انظر " الجواب الكافي " لابن القيم (ص ٣٨) .
ومن أقوال المعاصرين:
قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله - يذكِّر المسلمين بتأخر نزول المطر وسبب ذلك -:
فقد رأيتم الواقع، وهو تأخر نزول الغيث عن إبانه، وقحوط المطر وعدم مجيئه في أزمانه، ولا ريب أن سبب ذلك هو معاصي الله، ومخالفة أمره، بترك الواجبات، وارتكاب المحرمات.
فإنه ما من شرٍّ في العالم، ولا فساد، ولا نقص ديني، أو دنيوي: إلا وسببه المعاصي، والمخالفات، كما أنه ما من خيرٍ في العالم، ولا نعمة دينية، أو دنيوية: إلا وسببها طاعة الله تعالى، وإقامة دينه.
... .
فيا عباد الله: التوبة، التوبة! تفلحوا، وتنجحوا، وتستقيم أحوالكم، وتصلحوا، قال الله تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) هود/ ٥٢.
وارجعوا إلى ربكم، بالتجرد، والتخلص من حقوق الله التي له قبَلكم، واخرجوا من جميع المظالم التي عند بعضكم لبعض، وأكثروا من الاستغفار، بقلب يقظان حاضر، معترف بالذنوب، مقر بالتقصير والعيوب، وأديموا التضرع لرب الأرباب: يُدرَّ عليكم الرزق من السحاب.
" فتاوى الشيخ ابن إبراهيم " (٣ / ١٢٨ – ١٣١) باختصار شديد.
ثانياً:
مما اتفق عليه العقلاء من جميع الأمم: أن المعاصي لها تأثير على واقع حياتهم، وسبُل رزقهم , ومما يدل على ذلك: أن هؤلاء العقلاء يوصون باجتناب الظلم؛ لما يعلمون من سرعة تعجيل عقابه , بل حتى العرب قبل الإسلام كانوا يحذرون عاقبة بعض المعاصي، كالبغي، والغدر، والظلم.
والعقل يدل على مجازاة المحسن بالإحسان , وعلى مجازاة المسيء بالعقاب، والحرمان، ومثال ذلك: أنك تجد المعلِّم في المدرسة يثيب الطلبة المجتهدين بالجائزة، والثناء , ويكون عكس ذلك للمقصرين , وهكذا صاحب العمل في عمله يشجع العامل المجتهد، ويزيد له في أجره , وعلى عكس ذلك يكون الحال مع العامل المقصر.
ولله المثل الأعلى، فهو سبحانه وتعالى ينبِّه عباده إلى الرجوع إليه، والتوبة، بمثل هذه السنن، كالجفاف، وتأخر المطر، وضيق الرزق؛ ليرجعوا إليه، ويتركوا ما هم عليه من معاصٍ وآثام، ولو حصل شيء من الرزق من السماء: فلأجل البهائم! كما مرَّ في الحديث.
قال القرطبي رحمه الله:
وقد استسقى نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المصلَّى متواضعاً، متذللاً، متخشعاً، مترسِّلاً، متضرعاً، وحسبك به، فكيف بنا، ولا توبة معنا، إلا العناد، ومخالفة رب العباد، فأنَّى نُسقى؟! لكن قد قال صلى في حديث ابن عمر: (وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِم إِلَاّ مُنِعُوا القَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا البَهَائِم لَمْ يُمْطًروا) الحديث.
" تفسير القرطبي " (١ / ٤١٨) .
وإن رغد العيش، ووفرة الماء، قد يكون لبعض الناس، والأمم، بلاء، واستدراجاً، كما هو مشاهد في بلاد الغرب , وهذا مبلغهم من النعيم، وقد عجلت لهم طيباتهم في الدنيا , وسيكون عليهم بسبب ذلك زيادة في العذاب في الآخرة.
قال تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) آل عمران/ ١٨٠.
كما جاء ذلك مبيَّناً في حديث عُقْبَةَ بن عَامِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لَهُ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ نَزَعَ هَذِهِ الآيَةَ: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام/٤٥. رواه الطبراني في "الكبير" (١٧/٣٣٠) ، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (٤١٣) .
فتحصَّل مما سبق:
أنَّ حبس المطر عن قوم، أو بلد: إنما هو بأمر الله تعالى، ومهما كان له من الأسباب المادية: فإن الله تعالى هو من قدَّرها.
وإذا قدَّر الله تعالى المطر والرزق لبلد، أو قوم عصاة غير تائبين، أو كفار غير مسلمين: فلحكَم جليلة، وأسباب عديدة، منها: استدرجهم بالخيرات لزيادة العذاب عليهم يوم القيامة، ومنها: أنه من أجل البهائم، لا من أجلهم هم، وإذا حصل ذلك: صارت البهائم حينئذٍ خيراً منهم.
قال المناوي رحمه الله:
أي: لم يُنزل إليهم المطر؛ عقوبةً، بشؤم منعهم للزكاة عن مستحقيها، فانتفاعهم بالمطر إنما هو واقع تبعاً للبهائم! فالبهائم حينئذ خيرٌ منهم! وهذا وعيد شديد على ترك إخراج الزكاة أعظِم به من وعيد.
" فيض القدير " (٥ / ٣٧٨، ٣٧٩) .
ونرجو أن يكون ما ذكرناه نافعاً لصاحبك، ولكل من قرأه.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب