قصيدة " البردة " للبوصيري، وبيان ما فيها من كفر
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد سمعتُ الكثير عن " البردة " أشياء عديدة البعض يقول: إنها جيدة، ومفيدة، والبعض الآخر يرى أنها شرك؛ لأن بعض أبياتها يمتدح النبي صلى الله عليه وسلم بصفات الله. أتساءل: هل في نظركم أنها فعلا شرك فأجتنبها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قصيدة " البردة " تعدُّ من أشهر القصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم إن لم نقل: أشهرها، وقد نظمها " البوصيري ": وهو: محمد بن سعيد بن حمّاد الصنهاجي، ولد سنة ٦٠٨هــ، وتوفي سنة ٦٩٦ هـ .
وقد قيل في سببها: أن " البوصيري " أصيب بمرضٍ عُضالٍ، لم ينفع معه العلاج، وأنه كان يُكثر مِن الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى رآه في المنام ذاتَ ليلةٍ، وغطَّاه ببردته الشريفة، وأنه لمَّا قام " البوصيري " مِن نومه: قام، وليس به مرضٌ، فأنشأ قصيدته، والله أعلم بحقيقة ذلك.
ثانياً:
القصيدة المذكورة قد اشتملت على كفرٍ صريح، وقد تتابع العلماء من أهل السنَّة والجماعة على نقضها، ونقدها، وتبيين عوارها، وكشف زيغها ومخالفتها لاعتقاد أهل السنَّة والجماعة.
ومن أبرز الأبيات التي انتُقدت في تلك القصيدة: قوله:
١. يا أكرمَ الخلْقِ مالي مَن ألوذُ به ... ** سواك عند حدوثِ الحادثِ العَمم
٢. إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي ... ** عفواً وإلا فقل يا زلة القدم
٣. فإن مِن جودك الدنيا وضَرتها ... ** ومن علومك علم اللوح والقلم
٤. دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... ** واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
٥. لو ناسبت قدره آياته عظما ... ** أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
٦. فإن لي ذمة منه بتسميتي ... ** محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
ثالثاً:
ومن كلام أهل العلم في نقض تلك الأبيات ونقدها:
١. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -: " وأما الملك: فيأتي الكلام عليه؛ وذلك أن قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، وفي القراءة الأخرى (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) : فمعناه عند جميع المفسرين كلهم ما فسره الله به في قوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) الانفطار/ ١٧ – ١٩.
فمن عرف تفسير هذه الآية، وعرف تخصيص المُلك بذلك اليوم، مع أنه سبحانه مالك كل شيء ذلك اليوم وغيره: عرف أن التخصيص لهذه المسألة الكبيرة العظيمة التي بسبب معرفتها دخل الجنة من دخلها، وسبب الجهل بها دخل النار من دخلها، فيالها من مسألة لو رحل الرجل فيها أكثر من عشرين سنة لم يوفها حقها، فأين هذا المعنى، والإيمان، بما صرح به القرآن، مع قوله صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً) : من قول صاحب البردة:
ولن يضيق رسولَ الله جاهك بي ... ** إذا الكريم تحلي باسم منتقم
فإن لي ذمة منه بتسميتي ... ** محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ... ** فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فليتأمل من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها، ومن فتن بها من العباد، وممن يدعى أنه من العلماء، واختاروا تلاوتها على تلاوة القرآن: هل يجتمع في قلب عبد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله) ، وقوله: (يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً) ؟! لا والله، لا والله، لا والله، إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق، وأن فرعون صادق، وأن محمَّداً صادق على الحق، وأن أبا جهل صادق على الحق، لا والله ما استويا، ولن يتلاقيا، حتى تشيب مفارق الغربان.
فمن عرف هذه المسألة، وعرف البردة، ومن فتن بها: عرف غربة الإسلام " انتهى.
" تفسير سورة الفاتحة " من " مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب " (٥/١٣) .
٢. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – رحمه الله -: " من عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف إلى عبد الخالق الحفظي.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد بلغنا من نحو سنتين: اشتغالكم ببردة " البوصيري "، وفيها من الشرك الأكبر ما لا يخفى، من ذلك قوله: " يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك " إلى آخر الأبيات، التي فيها طلب ثواب الدار الآخرة من النبي صلى الله عليه وسلم وحده ...
وكونه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء لا يلزم أن يختص دونهم بأمر نهى الله عنه عباده عموماً، وخصوصاً، بل هو مأمور أن ينهى عنه، ويتبرأ منه، كما تبرأ منه المسيح بن مريم في الآيات في آخر سورة المائدة، وكما تبرأت منه الملائكة في الآيات التي في سورة سبأ.
وأما اللياذ: فهو كالعياذ، سواء، فالعياذ لدفع الشر، واللياذ لجلب الخير، وحكى الإمام أحمد وغيره الإجماع على أنه لا يجوز العياذ إلا بالله، وأسمائه، وصفاته، وأما العياذ بغيره: فشرك، ولا فرق.
وأما قوله: " فإن من جودك الدنيا وضرتها ": فمناقض لما اختص به تعالى يوم القيامة من الملك في قوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) ، وفي قوله تعالى في سورة الفاتحة: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وفي قوله تعالى: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) ، وغير ذلك من الآيات لهذا المعنى، وقال غير ذلك في منظومته مما يستبشع من الشرك " انتهى.
"رسائل وفتاوى الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد عبد الوهاب" (١/٨٢) .
٣. ذكر الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ – رحمه الله – بعض الأبيات السابقة، ثم قال: " فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك.
منها: أنه نفى أن يكون له ملاذٌ إذا حلَّت به الحوادث، إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو.
الثاني: أنه دعاه، وناداه بالتضرع، وإظهار الفاقة، والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله، وذلك هو الشرك في الإلهية.
الثالث: سؤاله منه أن يشفع له في قوله:
ولن يضيق رسول الله ... البيت
وهذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوه، وهو الجاه، والشفاعة عند الله، وذلك هو الشرك، وأيضاً: فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله، فلا معنى لطلبها من غيره؛ فإن الله تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لا أن الشافع يشفع ابتداء.
الرابع: قوله: فإن لي ذمة ... إلى آخره:
كذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس بينه وبين من اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، لا بمجرد الاشتراك في الاسم مع الشرك.
تناقض عظيم، وشرك ظاهر، فإنه طلب أولاً أن لا يضيق به جاهه، ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلاً وإحساناً، وإلا فيا هلاكه.
فيقال: كيف طلبت منه أولاً الشفاعة، ثم طلبت منه أن يتفضل عليك، فإن كنت تقول: إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله: فكيف تدعو النبي صلى الله عليه وسلم، وترجوه، وتسأله الشفاعة؟ فهلا سألتها من له الشفاعة جميعاً، الذي له ملك السموات والأرض، الذي لا تكون الشفاعة إلا من بعد إذنه، فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير الله.
وإن قلت: ما أريد إلا جاهه، وشفاعته، بإذن الله.
قيل: فكيف سألته أن يتفضل عليك ويأخذ بيدك في يوم الدين، فهذا مضاد لقوله تعالى: (وما أدراك ما يوم الدين. ثم ما أدرك ما يوم الدين. يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً. والأمر يومئذ لله) ، فكيف يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذا وهذا؟! .
وإن قلت: سألته أن يأخذ بيدي، ويتفضل عليَّ بجاهه وشفاعته.
قيل: عاد الأمر إلى طلب الشفاعة من غير الله، وذلك هو محض الشرك.
الخامس: في هذه الأبيات من التبري من الخالق - تعالى وتقدس - والاعتماد على المخلوق في حوادث الدنيا والآخرة ما لا يخفى على مؤمن، فأين هذا من قوله تعالى: (إياك نبعد وإياك نستعين) الفاتحة، وقوله تعالى: (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) ، وقوله: (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً) ، وقوله تعالى: (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً. قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً. إلا بلاغاً من الله ورسالاته) .
فإن قيل: هو لم يسأله أن يتفضل عليه، وإنما أخبر أنه إن لم يدخل في عموم شفاعته فيا هلاكه.
قيل: المراد بذلك سؤاله، وطلب الفضل منه، كما دعاه أول مرة وأخبر أنه لا ملاذ له سواه، ثم صرح بسؤال الفضل والإحسان بصيغة الشرط والدعاء، والسؤال كما يكون بصيغة الطلب يكون بصيغة الشرط، كما قال نوح عليه السلام: (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) " انتهى.
" تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد " (١/١٨٧-١٨٩) .
٤. وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
قرأتُ حديثاً فما مدى صحته، وهو: (من كان اسمه محمَّداً فلا تضربه ولا تشتمه) ؟ .
فأجاب: " هذا الحديث مكذوب، وموضوع على الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس لذلك أصل في السنة المطهرة، وهكذا قول من قال: " مَن سمَّى محمَّداً فإنه له ذمة من محمد، ويوشك أن يدخله بذلك الجنة "! وهكذا من قال: " من كان اسمه محمَّداً فإن بيته يكون لهم كذا وكذا "، فكل هذه الأخبار لا أساس لها من الصحة، فالاعتبار باتباع محمد، وليس باسمه صلى الله عليه وسلم، فكم ممَّن سمي محمداً وهو خبيث؛ لأنه لم يتبع محمَّداً، ولم ينقَد لشريعته، فالأسماء لا تطهر الناس، وإنما تطهرهم أعمالهم الصالحة وتقواهم لله جل وعلا، فمن تسمى بأحمد، أو بمحمد، أو بأبي القاسم، وهو كافر، أو فاسق: لم ينفعه ذلك، بل الواجب على العبد أن يتقي الله ويعمل بطاعة الله، ويلتزم بشريعة الله التي بعث بها نبيه محمداً، فهذا هو الذي ينفعه، وهو طريق النجاة والسلامة، أما مجرد الأسماء من دون عمل بالشرع المطهر: فلا يتعلق به نجاة، ولا عقاب.
ولقد أخطأ البوصيري في " بردته " حيث قال:
فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمَّداً وهو أوفى الخلق بالذمم
وأخطأ خطأ أكبر من ذلك بقوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... ** سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... ** فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ** ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل هذا المسكين لياذه في الآخرة بالرسول صلى الله عليه وسلم دون الله عز وجل، وذكر أنه هالك إن لم يأخذ بيده، ونسي الله سبحانه الذي بيده الضر والنفع والعطاء والمنع، وهو الذي ينجي أولياءه، وأهل طاعته، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم هو مالك الدنيا والآخرة، وأنها بعض جوده، وجعله يعلم الغيب، وأن من علومه علم ما في اللوح والقلم، وهذا كفر صريح، وغلو ليس فوقه غلو، نسأل الله العافية والسلامة.
فإن كان مات على ذلك، ولم يتب: فقد مات على أقبح الكفر، والضلال، فالواجب على كل مسلم أن يحذر هذا الغلو، وألا يغتر بـ " البردة "، وصاحبها، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله " انتهى.
" فتاوى الشيخ ابن باز " (٦ / ٣٧٠، ٣٧١) .
وأقوال العلماء أكثر من هذا، ويوجد من الأبيات ما فيه مجال للنقد، لكننا اخترنا بعضاً من `ذلك، وهو كافٍ في بيان المقصود، وهو التحذير من هذه القصيدة، وأنها احتوت على غلو ظاهر، وكفر وزندقة.
وللمزيد في نقد هذه القصيدة: ينظر كتاب " العقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية " للشيخ عبد الرحمن المغراوي "القسم الخامس" (ص ١٣٩ – ١٥٤) ، ومقال " قوادح عقدية في بردة البوصيري " للشيخ عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف، هنا:
http://www.saaid.net/arabic/ar٢٠.htm
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]