حكمة تشريع الطهارة في الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو معنى الطهارة للرد على أهل الكتاب في ذلك؟ ولماذا نتطهر في الصلاة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
من يعلم ما جاءت به شريعة الإسلام الخالدة لا يستشكل ما أمرت به، ولا ما نهت عنه؛ لأن علمه بها يمنعه من أن يقف حائراً يتلمس الحكمة، وينظر في العلة، ولم نر مثل هذه الاستشكالات إلا ممن يجهل هذا الدين العظيم.
ولو أن شخصاً ما يثق بطبيب بشري ثقة مطلقة، ثم جاء ذلك الطبيب ببرامج صحية، ووقائية: لرأيت ذلك الواثق بالطبيب يسلم له، وينفذ أوامره، وكله ثقة بأنه ما قال هذا إلا عن خبرة وتجربة، ولا تجده يقف ويتأمل حتى يعرف لم قال هذا هنا، ولم منع ذاك هناك.
ولله المثل الأعلى، فإن ثقتنا بربنا تعالى لا يمكن مقارنتها بثقة ذلك الشخص بذلك الطبيب، وكيف يكون هذا وليس ثمة مجال للمقارنة بين إله وبشر، بين خالق ومخلوق.
ومما يصدِّق هذا ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله في نهاية بحثه في حكَم تشريع الطهارة، قال:
لو أن " أبقراط " وذويه أوصوا بمثل هذا: لخضع أتباعهم لهم فيه، وعظَّموهم عليه غاية التعظيم، وأبدوا له من الحكَم، والفوائد ما قدروا عليه.
" شفاء العليل " (ص ٢٣٠) .
ثانياً:
أما بخصوص الحكَم من تشريع الطهارة: فهي كثيرة، ونعني بالطهارة: إزالة القذر، والنجاسات، والوضوء، والغسل، ومن هذه الحِكم:
١. أن الطهارة موافقة للفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها، ومما لا شك فيه أن الإسلام هو دين الفطرة، وأنه جاء بالحث على " سنن الفطرة " لتوكيد فعل ما يُفعل منها، والبُعد عن ما يُترك منها، فغسل الوجه، وتنظيف الأنف، والفم، واليدين، وكذا الاغتسال، والاستنجاء، كل ذلك لا يحتاج لشرع ليشرعه، بل يكفي الإنسان أن يكون سليم الفطرة لينظف تلك الأعضاء والجوارح، وليحرص على بعدها عن القذر والنجاسة.
٢. الإسلام دين النظافة، والجمال، ويحرص على أن يكون أتباعه شامة بين الناس، ينظفون أبدانهم، ويسرحون شعورهم، ويلبسون أطهر الثياب، وتفوح منهم رائحة الطيب، ومثل هؤلاء لا شك ولا ريب أنهم سيكونون محط إعجاب الناس بهم، وهو ما يؤدي إلى نجاح دعوتهم لهذا الدين العظيم، وكما أن الناس تميل قلوبهم إلى النظيف الطاهر في بدنه وثيابه: فإنها تنفر من الوسخ القذر في ثيابه وبدنه، وليس هذا من الإسلام في شيء.
٣. أثبت الدراسات العلمية الحديثة المؤصلة أن النظافة والطهارة تحصِّن صاحبها من أمراض كثيرة، وأن القذارة سبب في حصول كثير من الأمراض، فكيف لهذا الدين العظيم أن لا يكون في تشريعاته ما يساهم في الوقاية من الأمراض، ويمنع من حدوثها وانتشارها؟! .
٤. للمسلم مع ربه تعالى لقاءات للمناجاة، ومن يقف بين يدي رئيس أو ملك أو عظيم: فإنه يحرص – كما هو مشاهد – على نظافة بدنه، وثيابه، وطيب رائحته، وحرص الناس على هذا مع البشر ليس في الإسلام ما يمنع منه، بل كان هذا هو هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كان يتجمل للوفود، ونزيد على ذلك أن أعظم من يُتجمل له، وأعظم من نحرص على طهارة أبداننا وثيابه ونحن بين يديه: هو الله تعالى، ولذلك لا نعجب عندما نفعل هذا بين يديه تعالى، وها هم الناس يحرصون على مثله أو أعظم منه بين يدي مخلوق مثلهم؛ فكيف ينبغي أن يكون حاله أمام الله؛ فالله أحق أن يتجمل له الناس، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما. [انظر: صحيح ابن خزيمة (٧٦٦) ] .
٥. ومن تأمل أحكام الشرع، ورزقه الله تعالى الفهم: استطاع أن يفرِّق بين طرق الطهارة في الإسلام، وأنه ثمة حكم في كون الغسل من الجنابة، لا من البول – مثلاً -، وأنه ثمة فرق بين الوضوء والغسل.
قال ابن القيم – رحمه الله -:
إيجاب الشارع صلى الله عليه وسلم الغسل من المنيّ دون البول: فهذا من أعظم محاسن الشريعة، وما اشتملت عليه من الرحمة، والحكمة، والمصلحة؛ فإن المنيّ يخرج من جميع البدن، ولهذا سمَّاه الله سبحانه وتعالى (سُلالة) ؛ لأنه يسيل من جميع البدن، وأما البول: فإنما هو فضلة الطعام، والشراب، المستحيلة في المعدة، والمثانة، فتأثر البدن بخروج المني أعظم من تأثره بخروج البول.
وأيضاً: فإن الاغتسال من خروج المني من أنفع شيء للبدن، والقلب، والروح، بل جميع الأرواح القائمة بالبدن فإنها تقوى بالاغتسال، والغسل يُخلف عليه ما تحلل منه بخروج المني، وهذا أمر يُعرف بالحسِّ.
وأيضاً: فإن الجنابة توجب ثقلاً وكسلاً، والغسل يُحدث له نشاطاً، وخفةً، ولهذا قال أبو ذر لمَّا اغتسل من الجنابة: " كأنما ألقيتُ عنِّي حِمْلاً ".
وبالجملة: فهذا أمر يدركه كلُّ ذي حسٍّ سليم، وفطرة صحيحة، ويعلم أن الاغتسال من الجنابة يجري مجرى المصالح التي تلحق بالضروريات للبدن والقلب، مع ما تحدثه الجنابة من بُعد القلب والروح عن الأرواح الطيبة، فإذا اغتسل: زال ذلك البُعد، ولهذا قال غير واحد من الصحابة: " إن العبد إذا نام عرجت روحه، فإن كان طاهراً أذن لها بالسجود، وإن كان جنباً لم يؤذن لها "، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجنُب إذا نام أن يتوضأ.
وقد صرح أفاضل الأطباء بأن لاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته، ويخلف عليه ما تحلل منه، وإنه من أنفع شيء للبدن والروح، وتركه مُضرٌّ، ويكفي شهادة العقل والفطرة بحُسنه، وبالله التوفيق.
على أن الشارع لو شرع الاغتسال من البول: لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة تمنعه حكمة الله، ورحمته، وإحسانه إلى خلقه.
" إعلام الموقعين " (٢ / ٧٧، ٧٨) ، وانظر أيضا: " التحرير والتنوير " للطاهر ابن عاشور (٥ / ٦٥) .
٦. وفي الإسلام علاقة بين الظاهر والباطن، فمن حرص على تطهير بدنه وثيابه من الأقذار والنجاسات: فإنه ينبغي أن يكون أحرص على تطهير نفسه وباطنه من أخلاق السوء، ومن جمَّل بدنه وثوبه فهو علامة على جمال باطنه، ولا يحرص الإسلام على جمال الظاهر ويغض الطرف عن جمال الباطن، بل كلاهما مطلوب، وإن كان الإنسان يُعذر بعدم توفر ما يجمِّل ظاهره فإنه ليس معذوراً بترك تجميل باطنه، وكلا الطهارتين سبب لتحصيل محبة الله تعالى، قال تعالى: (إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين) البقرة /٢٢٢.
٧. ونختم بكلام جامع للإمام ابن القيم رحمه الله، حيث يقول:
تأمَّل أبواب الشريعة ووسائلها وغاياتها كيف تجدها مشحونة بالحكَم المقصودة، والغايات الحميدة التي شرعت لأجلها، التي لولاها لكان الناس كالبهائم، بل أسوأ حالاً، فكم في الطهارة من حِكمة، ومنفعة، للقلب، والبدن، وتفريح للقلب، وتنشيط للجوارح، وتخفيف من أحمال ما أوجبته الطبيعة، وألقاه عز النفس من درن المخالفات، فهي منظفة للقلب والروح والبدن، وفي غسل الجنابة من زيادة النعومة والإخلاف على البدن نظير ما تحلل منه بالجنابة ما هو من أنفع الأمور.
وتأملْ كون الوضوء في الأطراف التي هي محل الكسب والعمل، فجعل في الوجه الذي فيه السمع والبصر والكلام والشم والذوق، وهذه الأبواب هي أبواب المعاصي والذنوب كلها، منها يدخل إليها، ثم جعل في اليدين وهما طرفاه وجناحاه اللذان بهما يبطش ويأخذ ويعطي، ثم في الرِّجلين اللتين بهما يمشي ويسعى.
ولمَّا كان غسل الرأس مما فيه أعظم حرج ومشقة: جعل مكانه المسح، وجعل ذلك مخرجاً للخطايا من هذه المواضع حتى يخرج مع قطر الماء من شعره وبشره، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة قال: (إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ - أَوِ الْمُؤْمِنُ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ) رواه مسلم، وفي صحيح مسلم أيضاً عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ) فهذا من أجلِّ حكَم الوضوء، وفوائده.
وقال نفاة الحكمة: إنه تكليف ومشقة وعناء محض لا مصلحة فيه، ولا حكمة شرع لأجلها! ولو لم يكن في مصلحته وحكمته إلا أنه سيماء هذه الأمة وعلامتهم في وجوههم وأطرافهم يوم القيامة بين الأمم ليست لأحد غيرهم، ولو لم يكن فيه من المصلحة والحكمة إلا أن المتوضئ يطهر يديه بالماء وقلبه بالتوبة ليستعد للدخول على ربه ومناجاته والوقوف بين يديه طاهر البدن، والثوب، والقلب، فأي حكمة ورحمة ومصلحة فوق هذا؟! .
ولمَّا كانت الشهوة تجري في جميع البدن حتى إن تحت كل شعرة شهوة: سرى غسل الجنابة إلى حيث سرت الشهوة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً)
[رواه أهل السنن، وفيه ضعف] ؛ فأمر أن يوصل الماء إلى أصل كل شعرة، فيبرد حرارة الشهوة، فتسكن النفس، وتطمئن إلى ذكر الله، وتلاوة كلامه، والوقوف بين يديه.
" شفاء العليل " (ص ٢٢٩، ٢٣٠) .
وبكل حال: فإنه من تأمل أحكام الشريعة بانت له حكَمها، ومن طمس الله بصيرته: فلن ينتفع بما يراه، ولا بما يسمعه، وليُعلم أن الطهارة من محاسن الأخلاق لم تختلف فيها الشرائع السابقة للإسلام، ولا يُتصور رسول يأتي قومه برسالة إلا وفيها الدعوة – أولاً – لتطهير القلب من رجس الأوثان، ثم تدعو الناس إلى الجميل من الأقوال، والأفعال، والأخلاق، وتطهير الثوب، والبدن، والغسل، والتطهر، وإزالة القذر والنجاسة مما لا تختلف الشرائع السماوية كلها في تشريعها، ومن جادل في ذلك فإنما يجادل بالباطل.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب