للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل هناك تعارض بين قول الله تعالى وأن تصوموا خير لكم وحديث إن الله يحب أن تؤتى رخصه؟

[السُّؤَالُ]

ـ[كيف يمكن محو التعارض الظاهر بين قول الله تعالى: (وأن تصوموا خير لكم) ، وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) ؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولا:

باب الرخصة والعزيمة من الأبواب التي تدرس في علم أصول الفقه، وقد عرف الأصوليون الرخصة بأنها الأحكام التي شرعها الله تعالى بناء على أعذار العباد، رعاية لحاجاتهم، مع بقاء السبب الموجب للحكم الأصلي.

قال الزركشي:

" هي الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر " انتهى.

" البحر المحيط " (١/٢٦٢) .

وعرفها الشاطبي بقوله:

" هي ما شرع لعذر شاق، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه " انتهى.

" الموافقات " (١/٤٦٦)

وأمثلتها: التلفظ بالكفر عند الإكراه، والأكل من الميتة عند الضرورة، وغير ذلك.

ثانيا:

بين العلماء أن الرخص ليست على حكم شرعي واحد، وإنما تعتريها الأحكام الشرعية المختلفة:

١- الوجوب: كالأكل من الميتة عند الضرورة، فهذه رخصة واجبة: مَن تَرَكَها أَثِم، لقوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة/١٩٥.

٢- الاستحباب والندب: مثاله قصر الصلاة في السفر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ) رواه مسلم (رقم/٦٨٦)

٣- الإباحة: مثاله عقد السلم، والعرايا، وهي: بيع الرطب على رؤوس الأشجار خرصا بالتمر كيلا، وشبه ذلك من العقود. عن سهل بن أبي حثمة قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر، ورخص في العرايا، أن يشتري بخرصها، يأكلها أهلها رطبا) رواه أبو داود (رقم/٣٣٦٣) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

٤- خلاف الأولى: كفطر المسافر الذي لا يتضرر بالصوم، قالوا: وإنما كانت هذه الرخصة خلاف الأولى أخذا من قوله تعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) البقرة/١٨٤، فالصوم مأمور به في السفر أمرا غير جازم، وهو يتضمن النهي عن تركه، وما نهي عنه نهيا غير صريح فهو خلاف الأولى، وقد سبق بيان هذا الحكم في جواب السؤال رقم: (٢٠١٦٥)

ثالثا:

بناء على ما سبق يتبين أن الرخصة الشرعية تعتريها عدة أحكام، وليس حكم الندب فقط كما هو المشهور. وعلى ذلك، فقوله عليه الصلاة والسلام، في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ) رواه ابن حبان في " صحيحه " (رقم/٣٥٤) ، قال المنذري في " الترغيب والترهيب " (١/! ٤٧) : إسناده حسن. وصححه الألباني في " إرواء الغليل " (٣/١٠) .

لا يعني استحباب كل رخصة على كل عزيمة مطلقا، بل وجهه العلماء بتوجيهات عدة منها:

١- أنه خاص في الرخص التي طلبتها الشريعة وحثت عليها ورغبت فيها، أو في حال ما إذا كانت العزيمة تسبب مشقة فادحة لا تأتي بمثلها الشريعة، وليس في كل رخصة يثبت الاستحباب:

يقول العلامة الشاطبي رحمه الله:

" قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه) ؛ فالرخص الي هي محبوبة ما ثبت الطلب فيها، فإنا إذا حملناها على المشقة الفادحة التي قال في مثلها رسول الله, صلى الله عليه وسلم: (ليس من البر الصيام في السفر) ، كان موافقا لقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة/١٨٥، وقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) النساء/٢٨، بعدما قال في الأولى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) البقرة/١٨٤، وفي الثانية: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) النساء/٢٥. فليتفطن الناظر في الشريعة إلى هذه الدقائق ليكون على بينة في المجاري الشرعيات " انتهى.

" الموافقات " (١/٥١٧)

ويقول الشيخ أبو القاسم الأنصاري المعروف بابن الشاط:

" يمكن أن يحمل – يعني حديث ابن عباس السابق - على أن الرخص التي هي محبوبة ما ثبت الطلب فيه، أو ما أدى تركه إلى المشقة الفادحة التي قال في مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس من البر الصيام في السفر) ، فيوافق قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ، وقوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم) ، بعد ما قال في الأولى: (وأن تصوموا خير لكم) ، وفي الثانية: (وأن تصبروا خير) " انتهى.

حاشية " الفروق " للقرافي (٢/١٣٩)

٢- وقال بعض أهل العلم: المقصود من الحديث دفع التكبر والترفع عن استباحة ما أباحته الشريعة، فهذا هو المذموم، أن يترفع المسلم عن الترخص بالرخص تنطعا، ففي هذه الحالة يحب الله من العبد أن يأتي بالرخص، كسرا لهذا الكبر، واعترافا بنعمة الله تعالى علينا بالتخفيف، وليس المقصود استحباب الترخص بكل رخصة.

يقول المناوي رحمه الله:

" لما فيه من دفع التكبر والترفع من استباحة ما أباحته الشريعة، ومَن أَنِفَ ما أباحه الشرع، وترفَّعَ عنه: فَسَدَ دينه؛ فأمر بفعل الرخصة ليدفع عن نفسه تكبرها، ويقتل بذلك كبرها، ويقهر النفس الأمارة بالسوء على قبول ما جاء به الشرع " انتهى.

" فيض القدير " (٢/٣٧٦)

٣- وذهب بعض أهل العلم إلى أن المقصود من الحديث تطييب قلوب الضعفاء الذين لا يقدرون على العزائم، فواساهم بأنهم يترخصون في الجملة بما يحب الله، وليس المقصود بيان أن كل رخصة حكمها الاستحباب.

يقول الإمام الغزالي رحمه الله:

" – جاء الحديث - تطييبا لقلوب الضعفاء حتى لا ينتهي بهم الضعف إلى اليأس والقنوط فيتركون الميسور من الخير عليهم بعجزهم عن منتهى الدرجات، فما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين كلهم عليه اختلاف أصنافهم ودرجاتهم " انتهى.

" إحياء علوم الدين " (٤/٢٧٨)

فالحاصل أنه لا تعارض بين الآية والحديث، لأن كلا منهما يتنزل على حال مختلفة عن الأخرى.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>