للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

والدته تتهم زوجته زورا

[السُّؤَالُ]

ـ[أرجو أن تشرح لي مسألة إغضاب الوالدين، حيث يحرم أن أقول لهما مجرد كلمة أف، السبب في سؤالي هذا هو أنني متزوج منذ عدة سنوات ولدي طفلان، ولكن والدتي تشكو دائما من زوجتي، ولا يوجد بينهما تفاهم، وهي تتصل بي وتخبرني أن زوجتي شريرة، وتقول إن زوجتي لا تحترمها، في حين أن زوجتي ليست كذلك، وتقول أيضا إن زوجتي تفعل كذا وتقول كذا وهو ما تنكره زوجتي، وهي لم تعد تقيم معنا، ومع ذلك ما زالت تقول إن زوجتي لا تحترمها، ولا أعتقد أن زوجتي قد أخطأت في شيء في الحقيقة، ولكني متكدر جدا لأنهما لا تستطيعان التفاهم معا، وزوجتي تبتعد عن عائلتي لأنها تخشى أن يتهموها بشيء لم تفعله، وهذا يزيد من غضب أمي؛ لأنها تقول إن زوجتي لا تهتم بها، فماذا أفعل في هذا الموقف بحيث لا أغضب والديّ، ولكن في نفس الوقت لم ترتكب زوجتي شيئا، وتقول لي إنه حرام علي أن لا أقول شيئا عندما يتهمونها بشيء لم تفعله، فهل هذا صحيح؟ أرجو نصحي، ماذا أفعل في هذا الموقف؟ وهل حرام على أمي أن تخبرني بأن أختار بينهما؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد للَّه

مشكلتك أيها الأخ الكريم، هي إحدى المعضلات في الحياة الزوجية، وهي مشكلة قديمة معقدة، حتى صارت عند العرب مضرب المثل لمن بينهم من المعاملة والأخذ والإعطاء ما لا غنى بهم عنه، ثم لا تزال المشارة والعداوة بينهم؛ فيقولون: (إن الحماة أولعت بالكَنَّة، وأولعت كنتها بالظِّنة) ؛ فالحماة أخت الزوج وأمه، والكنة امرأة الرجل. والمعنى: أن الكنة إذا سمعت أدنى كلمة قالت: هذا عمل حماتي!! [انظر: المستقصى في الأمثال، للزمخشري ١/٧٧] ؛ فهناك، في واقع الأمر، تربص متبادل من الطرفين، كل بالآخر!!

وفي مثل هذه العلاقات تشتبك كثير من العوامل والمؤثرات التي ينبغي مراعاتها وتفهمها، ثم التدرب على كيفية التعاطي معها للخروج بأفضل النتائج.

ولعلك تدرك أخي الكريم أن الغيرة – التي فطر الله سبحانه وتعالى البشر عليها - هي من أهم تلك العوامل، وخاصة بين الأم والزوجة، فإن الأم التي صحبتك تلك السنوات الطوال، تحفظك وترعاك وتعتني بك، سوف تشعر بأنك لم تعد ملكا خالصا لها، بل سوف تشعر أيضا أن نصيبها منك لم يعد وافيا بحقها عليك، وأن القسمة بينها وبين زوجتك لم تكن عادلة؛ فللزوجة الحب والحنان والتدليل والرعاية، وللأم الصبر على متاعبها على مضض، وإعطاؤها ما تحتاجه، على كره وتأفف، هذا إن كان سيعطيها، فكيف إذا كان عاقا، ومنعها حقوقها؟!! وحينئذ تخلق المشاكل.

والغيرة نار تعمي وتصم، لا تلبث أن تأكل كل سعادة واطمئنان تعيشها الأسرة، وهي أقوى ما تكون إذا أسأنا التعامل معها، ولم نحاول تهذيبها وتخفيف لهيبها.

أقول ذلك ابتداء كي تتفهم معي أمرين اثنين مهمين:

الأمر الأول: كي تدرك حقيقة السبب الذي يدفع والدتك لمثل هذه التصرفات تجاه زوجتك، وتدرك حقيقة عذرها في ذلك، وأنها قد لا تكون تملك من أمرها شيئا، فالمرأة ضعيفة جدا أمام هذا الشعور، ولا تستطيع إخفاءه رغم سعيها الشديد للظهور بمظهر الرضا والقبول، فإذا أدْرَكتَ حقيقة عذر الوالدة، اطمأن قلبك نحوها، وسكنت مشاعرك تجاهها، وأيقنت أن برها وطاعتها وحبها فرض لازم في حقك نحوها، لا ينبغي أن تشك في ذلك لحظة واحدة، مهما بلغ حد المشاكل التي تجرها عليكم نار الغيرة.

أما الأمر الثاني: فهو أن تعلم أنك بالحب وحده يمكنك تغيير الحال الذي بين والدتك وزوجتك، فالوالدة بحاجة إلى اطمئنان زائد بمحبة ابنها لها، وأنه على ما عَهِدَتهُ فيه من مودةٍ واحترام وبر وإحسان، بل ينبغي عليك السعي إلى مضاعفة تلك المشاعر، بتكرار الزيارات والهدايا والحرص على إسعادها بالكلمة وتلبية الرغبات، وحينئذ ستبدأ نفسها بالسكون، وغيرتها بالهدوء، وتختفي تدريجيا تلك المشاكل التي كانت تصنعها.

وإذا كانت الوالدة، من خلال ما يبدو لنا من رسالتك، سريعة في التجني على زوجتك وأم أولادك، فإننا سوف نحاول أن نبدأ العلاج منك ومن زوجتك؛ لأن هذا في واقع الأمر هو الطرف الأسهل والأقرب في المعادلة، ونقول للزوجة الكريمة، قال الله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:٣٤) .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ) رواه مسلم (٢٥٨٨) .

وفي حديث آخر: (وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا)

رواه الترمذي (٢٣٢٥) وصححه الألباني.

فكم من المشاكل ستزول حين تجاهد الزوجة الكريمة نفسها على ذلك الأدب، ابتغاء مرضاة، وإصلاحا لحال زوجها، ومحافظة على عيشه وبيته!!

ولتحاول أن تنزل أم زوجها مكان أمها، في احتمال غضبها، وغفران إساءتها، لا سيما والمسكن منفصل، وهذا يقلل إلى حد كبير من حدوث المشاكل والمصادمات.

وكم ستخف تلك المشكلات، إلى أن تنتهي بإذن الله، إذا استطاعت الزوجة الكريمة أن تتحين الفرص المناسبة لهدية لطيفة تهديها لأمك، حتى وإن كان في النفوس ما فيها. قال صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا) رواه أبو يعلى، وحسنه الألباني.

وأما أنت، أيها الأخ الكريم، فيجب أن يتسع قلبك لبر الوالدة وحبها الكبير، مع حب الزوجة والسكون إليها، ونجاحك في ذلك بداية العلاج، وفشلك فيه يعني استمرار المعاناة أو زيادتها، والأمر يحتاج منك إلى شيء من التصبر والتعلم، فإن الإنسان قابل لتعلم بذل مشاعر الود والمحبة كما يتعلم أي صناعة في هذه الدنيا.

وأنت خلال ذلك كله لا بد أن تقف عند الخطوط التي رسمتها لك الشريعة الإسلامية، وذلك في قوله سبحانه وتعالى:

(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) الإسراء/٢٣

وقوله سبحانه:

(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) لقمان/١٥

فتأمل كيف أن شرك الوالدين أو كفرهما – وهي أعظم الذنوب – لا ينبغي أن تحجب الابن عن صحبة والديه بالمعروف، فكيف ببعض المشاكل مع الزوجة؟

وأهم هذه الخطوط التي رسمتها الشريعة أيضا، حفظ حق الزوجة، واحترام مشاعرها ورغباتها، وعدم الجور عليها أو ظلمها لإيفاء حق الوالدة، فلا ينبغي لك أن تطيع والدتك إذا أمرتك بفراق زوجتك، ولا يجوز أن تصدقها فيما تتهم به زوجتك زورا وبهتانا، خاصة إذا كانت الزوجة ذات خلق ودين، فهي أمانة مستودعة في ذمتك، فيجب عليك أن تحفظ هذه الأمانة.

وإذا كان لنا من همسة في أذن الوالدة الكريمة، فنقول لها:

أيتها الأم الكريمة التي حملت ووضعت، وربت وتعبت، وآثرت على نفسها وبذلت، لا تكدري إحسانك لابنك بتنغيص عيشه، وأنزلي هذه الزوجة التي اختارها ابنك لنفسه، وجعل الله له منها الولد، أنزليها منزلة ابنتك، وانظري: كيف تحبين أن تعيش ابنتك مع زوجها وأهلها، فعامليها به، وجاهدي نفسك على الإحسان، كما أمرنا الرب الجليل: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) البقرة/١٩٥.

فإذا عجزت عن الإحسان فاعدلي. قال الله تعالى: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الحجرات/٩.

وحذار، أيتها الوالدة، من الظلم؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متفق عليه.

وقد سبق تفصيل بعض الأحكام المتعلقة بذلك في جواب السؤال رقم (٧٦٥٣) ، (٤٤٩٣٢) ، (٤٧٠٤٠) .

نسأل الله أن يصلح بالكم، وأن يصلح ذات بينكم، وأن يرزقنا وإياكم الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>