قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[أثنى الله عز وجل في سورة آل عمران على الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض، وقد أثبت العلم الحديث توافق أشياء كثيرة مع ما ذكر في القران، ولكن مع هذا هناك بعض الناس من يقول إنه ينبغي أن لا تنزل المكتشفات العلمية الحديثة على الحقائق التي في القرآن؛ لأن العلم دائماً في تغير مستمر، بينما القرآن ثابت معجز في كل زمان ومكان، فقد يكتشف العلم الحديث شيئاً ويسارع الناس لتنزيل هذا المكتشف على ما جاء في القران، ثم ما يلبث هذا المكتشف أن يثبت عكسه، فيتأثر بذلك مَن في قلبه مرض. وقد قرأت مقالات لأحد العلماء يتحدث فيها عن العلم الحديث والقرآن، وأنه لا يمكن أن يتعارضا مع بعض، ولكن مع هذا كله ما زال كثير من الناس يصرون على عدم استخدام هذه الحقائق العلمية حتى في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام. فما هو رأيكم في ذلك؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
النظر في قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، هو كغالب القضايا العلمية والفكرية: يكتنفه طرفان: إفراط وتفريط، والتوسط بين هذين الطرفين عادة ما يكون هو الأوفق والأقرب للصواب:
١-فمن الخطأ والتقصير الظاهر عدم الاستفادة من حقائق العلم الحديث في تفسير كثير من الآيات الكونية في القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة في السنة المطهرة، ونحن نؤمن أن خالق الكون ومنزل القرآن الكريم إله واحد، فلا بد أن تتطابق التفاصيل الواردة فيهما، والعلم الحديث خير معين على كشف هذا التطابق.
٢-ومن الخطأ الظاهر أيضا المبالغة في هذا التوجه، وتحميل الآيات ما لا تحتمل من أوجه المجاز المخالفة للسياق، أو المخالفة لما ثبت في السنة المطهرة من تفسير هذه الآيات، أو التسرع في عرض الفرضيات والنظريات على أنها حقائق علمية.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" الإعجاز العلمي في الحقيقة لا ننكره، لا ننكر أن في القرآن أشياء ظهر بيانها في الأزمنة المتأخرة، لكن غالى بعض الناس في الإعجاز العلمي، حتى رأينا من جعل القرآن كأنه كتاب رياضة، وهذا خطأ.
فنقول: إن المغالاة في إثبات الإعجاز العلمي لا تنبغي؛ لأن هذه قد تكون مبنية على نظريات، والنظريات تختلف، فإذا جعلنا القرآن دالاًّ على هذه النظرية ثم تبين بعد أن هذه النظرية خطأ، معنى ذلك أن دلالة القرآن صارت خاطئة، وهذه مسألة خطيرة جدًّا.
ولهذا اعتني في الكتاب والسنة ببيان ما ينفع الناس من العبادات والمعاملات، وبين دقيقها وجليلها حتى آداب الأكل والجلوس والدخول وغيرها، لكن علم الكون لم يأتِ على سبيل التفصيل.
ولذلك فأنا أخشى من انهماك الناس في الإعجاز العلمي وأن يشتغلوا به عما هو أهم، إن الشيء الأهم هو تحقيق العبادة؛ لأن القرآن نزل بهذا، قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) " انتهى.
" مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين " (٢٦/٢٨) .
وقد قام كثير من الباحثين والعلماء المعاصرين – جزاهم الله خيرا – بكتابة الأبحاث العلمية الرصينة المتزنة في هذا الباب، وقامت لذلك هيئات علمية متخصصة، ومؤتمرات دولية، ومجامع عامة يمكن أن تثمر فيما تثمره تقعيدا مؤصلا منضبطا لقضايا هذا العلم الجديد، حتى يصل إلى درجة من الكمال الممكن، كحال كل علم ينشأ غرسا صغيرا، ثم يكبر ويثبت بدراسات العلماء الأفذاذ المتخصصين.
ونحن ننقل هنا بعض الضوابط المهمة للوصول إلى نتائج سليمة في هذا المنهج العلمي:
يقول الدكتور عبد الله المصلح حفظه الله:
" إن المراد بهذه الضوابط تلك القواعد التي تحدد مسار بحوث الإعجاز العلمي وفق الأصول الشرعية المقررة، مع الالتزام بالجوانب الفنية والعلمية المطلوبة.
وتكمن أهمية هذه الضوابط في كونها مناط استرشاد للباحثين في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، وخصوصا في هذا الوقت الذي كثر فيه إقبال الباحثين والكاتبين على هذا الموضوع لأهميته في الدعوة والإقناع، وذلك لتميز هذا العصر بالعلم ومكتشفاته، حتى أصبح العلم سمة من سماته.
وهذا الاهتمام من غير سير على ضوابط واضحة أوجد مزالق كثيرة حتى عند بعض المخلصين، وإسهاما في علاج ذلك جاءت هذه الضوابط علها أن تكون مانعا من الوقوع في تلك الأخطاء، وحافزا للكتابة في هذا الموضوع الحيوي.
والتزام هذه الضوابط يساعد كذلك على إنهاء الخلاف الفكري بين المؤيدين لموضوع التفسير العلمي والمعارضين له؛ لأن جوهر الخلاف بينهم يرجع سببه إلى تلك المظاهر الارتجالية التي لا يصدر أصحابها عن منهج صحيح.
وتلك الضوابط هي:
١- ثبوت النص وصحته إن كان حديثا، لتواتر القرآن دون الحديث.
٢- ثبوت الحقيقة العلمية ثبوتا قاطعا، وتوثيق ذلك علميا متجاوزة مرحلة الفرض والنظرية إلى القانون العلمي.
٣- وجود الإشارة إلى الحقيقة العلمية في النص القرآني أو الحديثي بشكل واضح لا مرية فيه.
فإذا تم ذلك أمكنت دراسة القضية لاستخراج وجه الإعجاز.
ويجب في أثناء تلك الدراسة مراعاة الضوابط التالية:
١-جمع النصوص القرآنية أو الحديثية المتعلقة بالموضوع، ورد بعضها إلى بعض لتخرج بنتيجة صحيحة لا يعارضها شيء من تلك النصوص، بل يؤيدها.
٢-جمع القراءات الصحيحة المتعلقة بالموضوع إن وجدت، وكذلك روايات الحديث بألفاظها المختلفة.
٣-معرفة ما يتعلق بالموضوع من سبب نزول ونسخ، وهل يوجد شيء من ذلك أو لا؟
٤- محاولة فهم النص الواقع تحت الدراسة على وفق فهوم العرب إبان نزول الوحي، وذلك لتغير دلالات الألفاظ حسب مرور الوقت، ولهذا يقتضي الأمر الإلمام بمسائل تعين على فهم النص والتمكن من تقديم معنى على آخر، وهي كالآتي:
أ-إن النص مقدم على الظاهر، والظاهر مقدم على المؤول.
ب -إن المنطوق مقدم على المفهوم، وإن المفاهيم بعضها مقدم على الآخر كذلك.
ت -أن يخضع في تناوله للنص لقاعدة: العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وأن العموم مقدم على الخصوص، والإطلاق مقدم على التقييد، والإفراد على الاشتراك، والتأصيل على الزيادة، والترتيب على التقديم والتأخير، والتأسيس على التأكيد، والبقاء على النسخ، والحقيقة الشرعية على العرفية، والعرفية على اللغوية.
ث -مراعاة السياق والسباق وعدم اجتزاء النص عما قبله وما بعده.
ج - مراعاة قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ح - معرفة معاني الحروف، وعدم تفسير حرف أو حمله على معنى لا يقتضيه الوضع العربي.
خ - مراعاة أوجه الإعراب، وعدم القول بتوجيه لا يسانده إعراب صحيح أو قرينة أخرى.
د - أن المشترك اللفظي يمكن حمله على واحد من معانيه دون نفي الآخر أو القطع بأن هذا الصواب وحده ما لم تكن هناك قرينة راجحة.
٥- إظهار وجه الإعجاز: فإذا تم ذلك لم يبق على الباحث سوى أن يظهر الربط بين الحقيقة الشرعية والعلمية بأسلوب واضح مختصر.
٦-أن هناك أمورا من قبيل المتشابه لا مجال لفهمها أو تناولها بالبحث.
٧-عدم البحث في الأمور الغيبية، كموعد قيام الساعة، وبداية الخلق، والجنة والنار.
٨-عدم الاعتماد على الإسرائيليات أو الروايات الضعيفة.
٩- الاعتماد على المصادر المعتبرة في ذلك دون غيرها، كأمهات التفسير والحديث وكتب غريب القرآن والسنة، مع الإشارة إلى جهود الدراسات السابقة إن وجدت.
١٠-الابتعاد عن تسفيه آراء السلف من علماء التفسير والحديث ورميهم بالجهل؛ لأن القرآن والسنة خطاب للبشرية في كل عصر، والكل يفهم منها بقدر ما يفتح الله عليه، وبحسب ما يبذله من جهد وما هو متوفر لديه من وسائل، ولن يحيط بفهم الوحي أهل عصر إلى قيام الساعة، فلا مجال للتسفيه والتجهيل، وإنما هي الاستفادة والتكميل والدعاء لمن تقدم، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِاْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) الحشر/١٠، بل الواجب اتباع فهم السلف رضي الله عنهم، وخصوصا الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، وعبد الله بن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم، فهم العمدة والعدول بخبر الله تعالى، وعنهم أخذ التابعون، وعلى نهجهم ساروا، فمن عدل عن تفسيرهم إلى ما يخالفه كان مخطئا، بل ومبتدعا، لأنهم كانوا أعلم بتفسير كتاب الله من غيرهم، وأورع، وأتقى.
١١-ينبغي أن تحصر الدراسة فيما تمكن القدرة عليه، فالأفراد يمكن أن يقصروا بحوثهم فيما يتعلق بالاكتشافات فيما هو خاضع لتجاربهم المخبرية، ليصلوا من خلال ذلك إلى الحق، وللجامعات والمراكز والدول مجالات أكثر وأكبر.
١٢-ينبغي أن يعلم الباحث في هذا المجال أن كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم صدق وحق، ولا يمكن بحال أن يخالف حقيقة علمية؛ لأن منزل القرآن هو الخالق العالم بأسرار الكائنات، قال تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك/١٤، ومعرفة ذلك تقتضي منا التريث وعدم تحميل النص ما لا يحتمله من أجل أن يوافق ما نظنه حقيقة، فإذا لم يتيسر ذلك بشكل واضح فعلينا أن نتوقف دون نفي أو إثبات، ونبحث عن موضوع آخر، والزمن كفيل بانكشاف الحق بعد ذلك.
١٣-على الباحث أن يتحرى الصدق والصواب وأن يخلص نيته لله في تبيين الحق للناس من أجل هدايتهم، وأن يعلم خطورة ما يتناوله، ويعبر عنه، فهو عندما يقول: هذا المعنى هو الذي يشير إليه قوله تعالى: فهو يفسر كلام رب العالمين، لذا يجب عليه أن يتذكر دائما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. (رقم/٢٩٥٠) ، وضعفه الألباني في " ضعيف الترمذي ".
١٤-ينبغي أن يتصف الباحث كذلك بالصبر، مع توفر الكفاءة العلمية المكتسبة، حتى يميز الحق من الباطل، ويقبله ويلتزم بالموضوعية، ومعناها هنا: حصر المعلومات ودراستها من غير تحيز لفكرة أو رأي سابق، مع التقيد بالمنهج العلمي في التوثيق والاقتباس والإحالات " انتهى.
" الإعجاز العلمي في القرآن والسنة تاريخه وضوابطه " (ص/٣٠-٣٧)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب