للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل يجزم الداعي بإجابة الله له؟

[السُّؤَالُ]

ـ[ما هي الطرق التي يستطيع الشخص من خلالها أن يقوي ثقته بالله، وأن يدعو وهو متيقن بالإجابة، فعلى سبيل المثال: عندما أدعو الله بأن يعطيني ثروة ومالاً، في الوقت ذاته أشك في أن الله قد لا يعطيني، إما أنه يؤخر لي هذه الدعوة إلى يوم القيامة، أو أنه يصرف عني بها سوءًا، كما جاء الحديث موضحا لذلك. فهل شعوري هذا يخدش التوكل، وهل ينافي تيقني بالإجابة؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

ينبغي على المسلم أن يعرف فقه الدعاء من جهتين:

١- من جهة نفسه وما كُلِّف أن يستحضر في قلبه: فيكون دائم الطمع في كرم الله، مستحضرا سعة خزائنه وعظيم فضله، مستبشرا بما وعد عباده الصالحين من إجابة سؤلهم ومنحهم رغائبهم، فيستعين بذلك قلبه على الثقة بالله، والإيمان بما أخبر عن نفسه من إجابة دعوة الداعي، فينطلق قلبه بالدعاء الصادق المخلص، ولا يثنيه تأخر الإجابة ولا يستبطئها، وبهذا يمتثل ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ) رواه الترمذي (٣٤٧٩) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.

٢- أما الجهة الثانية فهي دخول الدعاء في منظومة أقدار الله وحِكَمه في هذا الكون العظيم، فلله في خلقه وأمره من الحكمة البالغة ما تقتضي أن يقدر من الأحداث ما يكرهه البشر، كالفقر والمرض والحروب والكوارث وغير ذلك، وقد لا يُقَدِّر الرب عز وجل أن يكون الدعاء المعيَّن سببا مباشرا لدفع هذه الشرور، ولكنه – لوعده المؤمنين بإجابة الدعاء – يدخر ذلك عنده أجرا ومثوبة في الآخرة، أو يصرف به شرا آخر عن الداعي، فلن يكون الدعاء دائما سببا في تغيير القدر، وإلا لفسدت الأرض، ولَما تحققت حكمة الله تعالى في مفردات أقداره في هذا الكون العظيم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها. قالوا: إذا نكثر، قال: الله أكثر) رواه أحمد (٣/١٨) ، والترمذي (٣٥٧٣) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

وقد وجدنا للعلامة ابن الجوزي رحمه الله خواطر دقيقة محكمة، يشرح فيها هذا المعنى الذي نريد تقريره، كي لا يخطئ أحد في فهم حقيقة إجابة الدعاء، فيتسخط إن لم يلق من الله الإجابة المباشرة لسؤاله، أو يظن أن الكون رهن إشارة دعائه، وأن الله عز وجل سيرفعه أعلى من منزلة الأنبياء الذين ابتلوا وعذبوا وتأخرت عنهم الإجابة.

يقول رحمه الله:

"رأيت من البلاء العجاب، أن المؤمن يدعو فلا يجاب، فيكرر الدعاء وتطول المدة، ولا يرى أثراً للإجابة، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي احتاج إلى الصبر. وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب. ولقد عرض لي من هذا الجنس، فإنه نزلت بي نازلة، فدعوت وبالغت، فلم أر الإجابة، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده، فتارة يقول: الكرم واسع والبخل معدوم، فما فائدة تأخير الجواب؟ فقلت: اخسأ يا لعين، فما أحتاج إلى تقاضي، ولا أرضاك وكيلاً. ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك ومساكنة وسوسته، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدِّر في محاربة العدو لكفى في الحكمة. قالت: فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة؟

فقلت: قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه.

والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة والحق أن الحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب، من أشياء تؤذي في الظاهر يقصد بها المصلحة، فلعل هذا من ذاك.

والثالث: أنه قد يكون التأخير مصلحة، والاستعجال مضرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي) .

والرابع: أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك، فربما يكون في مأكولك شبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه. فابحثي عن بعض هذه الأسباب لعلك توقنين بالمقصود.

والخامس: أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب، فربما كان في حصوله زيادة إثم، أو تأخير عن مرتبة خير، فكان المنع أصلح. وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت أسرت، وإن أسرت تنصرت.

والسادس: أنه ربما كان فَقْدُ ما تفقدينه سبباً للوقوف على الباب واللجأ، وحصوله سبباً للاشتغال به عن المسؤول. وهذا الظاهر، بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ. فالحق عز وجل علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فلذعهم في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه، يستغيثون به، فهذا من النعم في طي البلاء. وإنما البلاء المحض ما يشغلك عنه، فأما ما يقيمك بين يديه، ففيه جمالك ...

وإذا تدبرت هذه الأشياء تشاغلت بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك من رفع خلل، أو اعتذار من زلل، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب " انتهى.

"صيد الخاطر" (ص/٢٠-٢١) .

وقال أيضا:

"يبين إيمان المؤمن عند الابتلاء، فهو يبالغ في الدعاء ولا يرى أثراً للإجابة، ولا يتغير أمله ورجاؤه ولو قويت أسباب اليأس، لعلمه أن الحق أعلم بالمصالح، أو لأن المراد منه الصبر أو الإيمان، فإنه لم يحكم عليه بذلك إلا وهو يريد من القلب التسليم لينظر كيف صبره، أو يريد كثرة اللجأ والدعاء، فأما من يريد تعجيل الإجابة ويتذمر إن لم تتعجل فذاك ضعيف الإيمان، يرى أن له حقاً في الإجابة، وكأنه يتقاضى أجرة عمله، أما سمعت قصة يعقوب عليه السلام، بقي ثمانين سنة في البلاء ورجاؤه لا يتغير، فلما ضم إلى فقد يوسف فقد بنيامين لم يتغير أمله، وقال: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتيني بهمْ جَميعاً) ، وقد كشف هذا المعنى قوله تعالى: (أَمْ حِسِتْتُمْ أَنْ تَدْخُلوا الْجَنّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِيْنَ خَلَوْ مِنْ قَبْلَكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللُّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب) ، ومعلوم أن هذا لا يصدر من الرسول والمؤمنين إلا بعد طول البلاء وقرب اليأس من الفرج، ومن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل، قيل له: وما يستعجل؟ قال: يقول: دعوت فلم يستجب لي) ، فإياك أن تستطيل زمان البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء، فإنك مبتلى بالبلاء، مُتَعَبَّد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله، وإن طال البلاء" انتهى.

"صيد الخاطر" (ص/١٦٨) .

وقد سبق في جواب السؤال رقم: (١٢٦٩٤٦) نقل آخر عن ابن الجوزي فراجعه فهو مفيد.

فحاصل ما نريد الوصول إليه: هو أن المؤمن مطالب ببذل الأسباب، ومنها: الدعاء الصادق، كما هو مطالب أيضا بالتسليم للأقدار، والإيمان بأن حكمة الله عز وجل قد تقتضي تأخير إجابة دعائه في الدنيا أو عدم ذلك، فلن يكون أحدنا أفضل من أنبياء الله ورسله الذين تأخر عنهم تحقيق سؤلهم ودعائهم، ولكنهم عرفوا أن الدعاء عبادة، وأنهم بسؤالهم الرب عز وجل يرتقون عنده في درجات العابدين، مع القطع بأن الله تعالى سيجيبهم، ولكن هذه الإجابة لا يلزم أن تكون بإعطائهم ما سألوا في الدنيا، بل قد تكون الإجابة بصرف شيء من السوء عنهم، أو بادخار ذلك لهم في الآخرة.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>