هل يترك تشييع جنازة شخص كان معروفا بالقسوة والوحشية؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز للمسلم أن يتجنب الذهاب لمراسيم جنازة شخص كان يعرف بالقسوة والوحشية؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اتباع الجنازة حتى يصلى عليها، أو حتى تدفن، حق للمسلم على أخيه المسلم، كما روى البخاري (١٢٤٠) ومسلم (٢١٦٢) أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ) .
وفي رواية لمسلم: (خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ ... ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية " انتهى من "فتح الباري" (٣/١٣٦) .
أي أن اتباع الجنازة واجب على الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وإذا تركه الجميع أثموا.
وقد جاء الأمر باتباع الجنائز فيما رواه البخاري (٢٤٤٥) ومسلم (٢٠٦٦) عن الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، فَذَكَرَ: (عِيَادَةَ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ، وَرَدَّ السَّلامِ، وَنَصْرَ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةَ الدَّاعِي، وَإِبْرَارَ الْمُقْسِمِ) .
وجاء في فضل اتباع الجنازة حتى يصلى عليها وحتى تدفن قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ. قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ) رواه البخاري (١٣٢٥) ومسلم (٩٤٥) .
ومع هذا فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على أناس، عقوبةً ونكالاً لهم، وزجراً عن أفعالهم، فلم يصل على الغالّ من الغنيمة، ولا على قاتل نفسه.
روى مسلم (٩٧٨) عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: (أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ) .
والمشاقص: جمع مشقص، وهو سهم له طرف حاد عريض.
وروى أبو داود (٢٧١٠) والنسائي (١٩٥٩) وابن ماجه (٢٨٤٨) عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذَلِكَ. فَقَالَ: (إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ يَهُودَ لا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ) .
والغلول: هو الأخذ من الغنيمة خفية قبل قسمتها.
وقد استفاد أهل العلم من هذا الحديث أن السنة في حق الإمام أن لا يصلي على الغال والقاتل نفسه، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا مسألتان:
الأولى: هل يلحق بالإمام غيره من أهل العلم والفضل؟
والثانية: هل يلحق بالغال والقاتل نفسه من هو مثلهم أو أشد كقطاع الطرق والظلمة وأصحاب الكبائر والمعاصي الظاهرة؟
والجواب: نعم، يلحق بالإمام غيره من أهل العلم والفضل، ويلحق بالغال والقاتل من هو مثلهم أو أشد.
قال الباجي في "المنتقى": " وَهَذِهِ سُنَّةٌ فِي امْتِنَاعِ الأَئِمَّةِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ الصَّلاةِ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ عَلَى وَجْهِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ. وَأَمْرُ غَيْرِهِ بِالصَّلاةِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُمْ حُكْمَ الإِيمَانِ لا يَخْرُجُونَ عَنْهُ بِمَا أَحْدَثُوهُ مِنْ مَعْصِيَةٍ " انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ومن مات لا يزكي ولا يصلي إلا في رمضان ينبغي لأهل العلم والدين أن يدعوا الصلاة عليه عقوبة ونكالا لأمثاله؛ لتركه صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه وعلى الغالّ والمدين الذي لا وفاء له، ولا بد أن يصلي عليه بعض الناس ... ومن مات مظهرا للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر، ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجرا لأمثاله عن مثل فعله كان حسنا، ومن صلى على أحدهم يرجو رحمه الله ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة كان حسنا، ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين كان أولى من تفويت إحداهما " انتهى.
"الاختيارات" (ص ٨٠) .
ونقل المرداوي في "الإنصاف" (٢/٥٣٥) : عن الإمام أحمد أنه لا يصلى على أهل الكبائر. وقال: " واختار المَجْد (مجد الدين ابن تيمية جد شيخ الإسلام ابن تيمية) أنه لا يصلي على كل من مات على معصية ظاهرة بلا توبة. قال في الفروع: وهو متجه " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " ولو قال قائل: أفلا ينبغي أن يُعدّى هذا الحكم إلى أمير كل قرية أو قضيها أو مفتيها، أي من يحصل بامتناعه النكال، هل يتعدى الحكم إليهم؟
فالجواب: نعم، يتعدى الحكم إليهم، فكل من في امتناعه عن الصلاة نكال فإنه يسن له أن لا يصلي على الغالّ، ولا على قاتل نفسه ".
ثم قال: " مسألة: هل يلحق بالغالّ، وقاتل النفس من هو مثلهم، أو أشد منهم أذية للمسلمين، كقطاع الطرق مثلا؟
الجواب: المشهور من المذهب: لا يلحق.
والقول الثاني: أن من كان مثلهم، أو أشد منهم، فإنه لا يصلي الإمام عليه؛ لأن الشرع إذا جاء بعقوبة على جرم من المعاصي، فإنه يلحق به ما يماثله، أو ما هو أشد منه.
فإذا كان الذي غل هذا الشيء اليسير لم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فما بالك بمن يقف للمسلمين في الطرق، ويقتلهم ويأخذ أموالهم، ويروعهم، أليس هذا من باب أولى أن ينكل به؟
الجواب: بلى، ولهذا فالصحيح: أن ما ساوى هاتين المعصيتين، ورأى الإمام المصلحة في عدم الصلاة عليه، فإنه لا يصلي عليه " انتهى من "الشرح الممتع" (٥/٤٤٢) .
وبناء على ذلك: فمن كان معروفا بالقسوة والوحشية بحيث يرتكب الكبائر أو يجاهر بالمعاصي، فينبغي أن يمتنع عن الصلاة عليه أهل العلم والفضل ممن يكون لامتناعهم تأثير في الزجر عن هذه المعاصي والتنفير منها ومن أهلها، وأما آحاد الناس الذين لا يترتب على امتناعهم عن الصلاة والتشييع مصلحة، فينبغي أن يتبعوا الجنازة ويصلوا عليها تحصيلا للأجر والثواب، وقياما بحق المسلم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب